العدد 5242 - الخميس 12 يناير 2017م الموافق 14 ربيع الثاني 1438هـ

مكر التاريخ إذ يفعل في الحاضر

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

ظاهرة الجهاد التكفيري العنيف، مُمثَّلةً في الوقت الحالي بـ «القاعدة» وفراخها، ستبقى لاعباً رئيسيّاً في ساحات السياسة والثقافة العربية لسنين طويلة مقبلة.

وككُلِّ الظواهر المتشابكة المُعقَّدة، ستحتاج إلى مزيد من فهم جذورها ومسبِّباتها، كلَّما طال عليها العهد وزادت مخاطرُها.

وحتى الآن تركزت دراسة هذه الظاهرة بشأن جذورها الفقهية الإسلامية، واستعمالات أصحابها الانتهازية لذلك الفقه في ما يرتكبونه من حماقات خارج العقل وخارج العدل الإلهي. لكنَّ هناك الجانب التاريخي الذي يستحق أن يدرس كتفسير جزئي لهذا البلاء الإرهابي، الذي يعمُّ الأرض العربية. ذلك أنَّ التاريخ لا يكشف مدى التطابق والتماثل بين حوادث الحاضر وحوادث الماضي فقط؛ وإنَّما يكشف أيضاً مدى استمرارية أفكار وثقافات وسلوكيات وهواجس الماضي في واقع الحاضر.

من هنا حاول البعض إجراء ذلك من خلال عمل مقارنة دينية وسياسية بين فكر وممارسات مجمل حراكات الجهاد التكفيري العنفي في حاضرنا، وبين فكر وممارسات حركة الخوارج في التاريخ العربي الإسلامي.

إنَّ أهمَّ تشابه هو في أمرين. الأمر الأول هو في الشعار السياسي، الكامن وراء قِناعٍ ديني، القائل بأن «لا حكم إلا لله». وهو شعار رفعه الرافضون للتحكيم الشهير فيما بين جيش الإمام علي بن ابي طالب من جهة، وجيش معاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية. وهو الشعار الذي بقي الأساس والمنطلق، لا في بداية تكوِّن حركة الخوارج، بل طيلة عنفوان تواجدها العسكري والسياسي الثوري لعقود طويلة.

إنَّ أخطر ما في ذلك الشعار هو أنَّ الخوارج نصَّبوا أنفسهم كمحتكرين وحيدين لتفسير معنى ذلك الشِّعار، وما يترتب على ذلك التفسير من صراعات سياسية وعسكرية. لقد كان على الجميع قبول قراءتهم للقُرآن وتفسيرهم لآياته، وبالتالي قيامهم بالإفتاء وباستنباط الأحكام في ضوء تفاسيرهم تلك.

أليس أساس ومنطلق شعارات الجهاد التكفيري حاليّاً هو نفس الشعار، واحتكار تفسيره من قبل أتباع « القاعدة» وأخواتها، وعدم قبول وجهات نظر كل المرجعيات الدينية الكبرى، هو الذي تمارسه قيادات تلك الحركات؟ أليس تغليف الممارسات العسكرية والسياسية تجاه الأبرياء، وتغليف النَّهب الاقتصادي بالوجه الديني لذلك الشعار هو الذي نراه في ما يُسمَّى بدولة الإسلام؟

ثُمَّ أليس رفع شعار» البيعة لله عزَّ وجل»، الذي رفع لتبرير رفض إعطاء البيعة للإمام علي في السابق، هو نفس الشعار الذي يرفع الآن لرفض كل سلطة حكم في أرض العرب، حتى ولو انبثقت عن انتخابات معقولة ونزيهة، كما هو الحال في تونس على سبيل المثال؟

الأمر الثاني هو التشابه في استعمال العنف الهمجي في شتَّى أشكاله. فمثلما ردَّ الخوارج على عنف الدولة الأموية بعنف تجسَّد في عمليات انتحارية استهدفت رجالات الأمن وأعوان السلطة من جهة، وطالت مسلمين أبرياء في بعض الأحيان، فانَّ الجهاد التكفيري يتفنَّن اليوم في تنفيذ عمليات انتحارية دامية وبشعة بحق الأبرياء من المصلين والمتسوِّقين والمرتادين للمطاعم والمدارس. وكما تجسَّد العنف في الماضي في شكل استعراضات علنية بشعة في طرق قتل المخالفين والمتردِّدين نراه اليوم ممارساً في طول وعرض العالم من قبل أتباع الجهاد التكفيري العنفي.

ذلك التشابه هو مكر التاريخ إذ يتلاعب بالحاضر ويشوِّهه. وهو تشابه انتقائي يتبنَّى الغلوَّ في الدين الذي لا يمكن إلا أن يقود في النهاية إلى عدم فهم الدين.

إلى هنا وينتهي التشابه، وهو تشابه بين المتطرِّفين والمتعنِّتين في الماضي والحاضر. فقد كان بين قادة الخوارج أصحاب ورع وزهد، وكان شعورهم بموضوعي الحق والعدل شعوراً طاغياً، وكان إصرارهم على إقامة الإمام الصالح بصرف النظر عن نسبه ولونه وذلك من خلال الاختيار والبيعة موقفاً سياسيّاً ودينيّاً ملفتاً للنظر، وكانت مقاومتهم لظلم بعض الحكم الأموي ثوريَّة ومحقَّة، وكان فهمهم لبعض الجوانب الفقهية أفضل من فهم الآخرين، وككل الحراكات الكبرى في التاريخ انقسموا مع مرور الوقت إلى عدد كبير من الفرق والتوجهات والأفكار والممارسات المتنافرة مع بعضها بعضاً والتي فيها الصالح والطالح.

لكننا معنيون بالأفكار والممارسات المُتطرِّفة غير العقلانية التي صبغت حركة الخوارج، وخصوصاً في مراحل تكوِّنها الأولى، والتي يظهر أنها استمرَّت عبر القرون في الكمون في ثقافة الأمة الدينية والسياسية، لتظهر الآن في العلن في شكل انفجارات هائلة وممارسات بشعة تُهدِّد مستقبل هذه الأمة.

ما نحتاج إلى أن نعيه، هو أنَّ ذلك التشابه دليل آخر للحاجة الملحَّة إلى مراجعة تفكيكيَّة نقدية للإرث العربي والإسلامي. وهي مُهمَّة بدأها كبار العلماء والمفكرين منذ قرنين، ولايزالون يقومون بها.

لكن ما يحزن هو أن الوصول إلى نهاية تلك المهمَّة ستطول وتطول في امتدادات مستقبل أمة العرب ووطن العرب، ما لم توضع جهود أكبر وأكثر فاعلية في الواقع العربي المُتردِّي.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5242 - الخميس 12 يناير 2017م الموافق 14 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:22 ص

      العلماء يعملون والمخلصون من الأمّة من مثقفين وغيرهم يحاولون لكن المشكلة في قوّة المال الذي يدعم هذه التوجهات والذي جعل من هذا الفكر السقيم قوة حطّمت وتحطّم دولا وشعوبا.
      المشكلة الأخرى وهي استغلال الدول الكبرى لهذا الفكر ودعمه لتفتيت الأمّة وتدميرها من الداخل والدول الكبرى لن تجد
      افضل هذه الفرص اذ يحصلون على فكر هدّام يفعل ما يريدونه من دون حروب ولا خسائر مادّية ولا بشرية.
      (يخربون بيوتهم بأيديهم )

    • زائر 4 | 1:07 ص

      قال تعالى (لا يحيق المكر السيء إلا بأهله) وها هو حبل هذا المكر يلتفّ شيئا فشيء على الدول التي ساهمت في نشر الفكر الداعشي واعتراف الحكومة الامريكية هو البداية الخلاص من الدواعش ومن داعميهم ولن تفلح امريكا في الخلاص لأن الشرّ سيطولها حتما

    • زائر 3 | 12:55 ص

      أصبت الحقيقة في كبدها ومقالك عجيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، كما ان المكر السيء لا يحيق الا بأهله وسوف يرتد على كل من خطّط وساهم فيه وسخّر اموال وثروات الشعوب ل.... متواصلة

    • زائر 2 | 12:51 ص

      لكي تتبدّل الأحوال وتتغير الأمور أهم أمر هو الاعتراف بالخطأ فإذا ما اعتراف الانسان بخطئه فإنه ربما يقوم بإصلاحه، لكن السيء هو أن يظلّ الإنسان مصرّا على خطئه ولا يعترف به .
      هذا ما هو حاصل لهذه الأمّة الى الآن تكابر ولا ترضى بأن تعترف بأخطائها بل الأدهى هناك تمجيد وتحميد لبعض المجرمين من السابقين واللاحقين واسباغ صبغة العصمة على السابقين من الأمّة ومحاولة اختلاق احاديث في ذلك

اقرأ ايضاً