العدد 5245 - الأحد 15 يناير 2017م الموافق 17 ربيع الثاني 1438هـ

عن الذين لا يندمون

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

لا أحد ينتمي إلى الجنس البشري لا يمر أو لا يعرف حالة ندم. قد يندم على التافه من الأمور، أو ما يراه هو كذلك. على الفظيع مما لم يرتكبه وفاته، لا على ما لم يرتكبه. قد يندم على أحلام وأماني تركها تذوي وتتلاشى. على جشع لم ينل منه حصة كافية، أو على جشع ارتكبه ووزع مآسيه على بشر كثيرين.

يرُوج بين البشر أن الندم أكثر حضوراً كلما تقدم بالإنسان السن. كلما اتضح الشيب فيه. كأن على الانسان أن يراجع ويدخل في صحوة قبل زمن من موت يراه قريباً بتقدم السن. في الفتوة وريعان الشباب عليك ألَّا تشغل نفسك بمسألة الندم. هكذا يقتنع كثيرون، طلباً للكثير مما يرونه مباهج وحقًّاً في استخلاص عسل الحياة وزبدتها. العسل الذي قد يكون في واقعه مرارة وحنظلاً، والزبدة التي قد تكون زبَدَاً.

في تقدم السن سبق أن كتب تشارلز ديكنز: «الندم هو الإرث الطبيعي للتقدم في السن»، كيف للإنسان أن يتعايش مع إرث في هيئة وواقع ندم؟ ألَّا يكشف الندم في جوانب منه عن حماقات ارتُكبت، وفظاعات مُورست، وحقوق انتهكت؟ ثم ألا يكشف أيضاً عن فرص أُهدرت ومواقف أُجلت وخيارات تم التفريط فيها، ومجد كشف عن ملامحه فرآه صاحبه وهماً. مثل ذلك الإرث الطبيعي، كما أطلق عليه ديكنز، هو محصلة طبيعية لندم بتلك المواصفات. وما فات من نبيل الأهداف والمواقف في ظل ظروف قاهرة يظل الندم عليه نبيلاً، توخّى صاحبه خيراً يمتد إلى الناس فلم يبلغه.

الكاتب الساخر والصحافي والقاص الأميركي، أنبروز بيرس (وُلد العام 1842، وتوفي العام 1914)، يضعنا أمام مقولة جميلة فيها الندم الذي يكاد يكون متشابهاً بين الناس: ندم سببه كلمات تترك فعلها على الناس. كلمات تخرج من دون تأنّ أو رويّة فتصيب بعض البشر في مقتل، أو تترك أذاها على بعضهم. إنه الكلام في الغضب الذي لا يحتاج إلا إلى جزء من الثانية، ولكنه قد يكِّلف الإنسان فيما بعد ندماً طوال حياته، يختزلها بيرس هنا بقوله: «تكلم وأنت غاضب وسيكون أفضل كلام تندم عليه طوال حياتك». ومن بين الذين لا يندمون، فاقدو الأمل. تحتاج إلى أمل كي تندم وتتجاوز ندمك. اليائس لا وقت لديه للأمل، ولا وقت لديه للندم كي يفتح صفحة جديدة. كي يتجاوز أخطاءه وما فات منه. هنا شكسبير يختصر المسألة: «من فقد الأمل فقد الندم».

أما أنيس منصور، فيضعنا أمام حقيقة بعض البشر، من خلال من يسوِّفون التصريح بالعيوب لمن يحبون، لمن هم على صداقة معهم. يؤجّلون ذلك إلى أن تحين ساعة فراق لا رجعة بعده، في إشارة منصور إلى أن «الشخص الوحيد الذي لا يستحق الندم على رحيله ذاك الذي لا يخبرك بعيوبك إلا بعد فراقك».

والذين لم يندموا بعد، لن يتمتعوا بحياتهم كما يجب، وستكون بمثابة موت يومي بطيء، على أن أسوأ البشر من بين كل أولئك، من لا يجد الندم مكاناً في قلبه وقناعاته. الندم على ما فرَّط، والندم على ما أسرف. بمعنى ما: لا يوجد ما نكتبه عن الذين لا يندمون سوى أنهم لا علاقة لهم بالحياة وبالجنس البشري. الأموات وحدهم الذين لا يندمون.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 5245 - الأحد 15 يناير 2017م الموافق 17 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً