العدد 525 - الخميس 12 فبراير 2004م الموافق 20 ذي الحجة 1424هـ

التغيير... تحت مطارق الحديد

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يظل حديث التغيير في المنطقة هو الأعلى صوتا والأشد صخبا، ليس لأن نظم المنطقة تريد تغيير جلدها، ولكن لأن المطرقة الحديد الأميركية تدق بعنف فوق الرؤوس، تريد لهذه الرؤوس أن تنحني أو تطير. .. وكلما اشتد لهيب الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية هناك، زاد وقع المطرقة على الرؤوس هنا، فثمة علاقة واضحة بين الحالين، إذ يراهن الرئيس بوش وقادة مطبخه السياسي، على أنهم نجحوا في «ما يسمونه حرب الإرهاب» في «الشرق الأوسط» على مدى الشهور الأخيرة، وعليهم أن ينجحوا أيضا في حرب التغيير، حتى يدخلوا انتخابات الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفي أياديهم أكثر من إنجاز يدعم فرص نجاحهم... وبقدر ما يمارس الأميركيون حملات التغيير تحت المطرقة بنجاح، بعدما مارسوا حملات الغزو والتغيير العسكري من قبل في اطمئنان كبير وثقة أكبر بحكم الفروق الهائلة في موازين القوى، بقدر ما ينعكس ذلك على النظم العربية الحاكمة، توترا وارتباكا واضطرابا ولعثمة! وليس أدل على ذلك من حال الارتباك التي تسود الآن، حكاية الإعداد لعقد القمة العربية «الدورية المقرر لها في مارس/ آذار المقبل في تونس، والتي من المقرر أن تبحث موضوعات عويصة، ليس تطوير الجامعة العربية أقلها، ففي ظل المطرقة الحديد، بدا واضحا الهروب إلى الأمام، سياسة مبطنة من البعض، وبدت بالتالي محاولات التهرب من الالتزامات، والتلويح بالخوف من الفشل، بل وفرض شروط مسبقة قاسية لعقد القمة في زمانها ومكانها... أما الحجة فهي معروفة للجميع وهي ضمان النجاح قبل الانعقاد! والمؤكد أن النجاح مطلوب ومهم لهذه القمة بالذات، التي تنعقد في أصعب الظروف العربية، وتحت وقع المطرقة الأميركية المطالبة بالتغيير السياسي الثقافي الإعلامي الكارهة أصلا لأي تجمع عربي، بل الداعية قولا وفعلا إلى إضعاف العمل العربي المشترك، وتفكيك - وليس تطوير - الجامعة العربية... حذرا من التزامات التطوير والتغيير، وجزعا من هول ضربات المطرقة الأميركية الناشطة سرا وعلانية، وجدت أطراف عربية أن الحل هو الهروب إلى الأمام، بوضع شروط صعبة الضمان، واختلاق المبررات غير المنطقية، وصار جدل الكواليس العربية «الرسمية» يدور في قلق وحذر حول مكان وزمان تصدير الأزمة، وتهريب «حقبة الفشل العربي» إلى جهة أخرى! وحين نتأمل هذا الواقع المرير، وسواء انعقدت القمة العربية المقبلة، في مكانها وزمانها، أو جرى ترحيلها و»تهريبها»، فإن الحقيقة تكشف عن عمق مأساة الإرادة العربية، وقصورها الفظ وعجزها الرهيب، في وجه ضربات المطرقة الأميركية، لا بالسلب ولا بالإيجاب، لكن بالاستسلام لقوة باطشة منفلتة، تحكمها عقول متغطرسة متعطشة للصدام والعراك الدامي. ولأن النظم الرسمية العربية، تشعر في قرارة نفسها، بأنها ضعيفة القوام هشة البنيان قليلة الحيلة هزيلة الشرعية المستندة إلى الرضا والاختيار الشعبي الحر، فإنها تبدو هكذا مستسلمة لأية ضغطة أميركية، مهما ضعفت، فما بالكم والمطرقة الحديد تدق الرؤوس الكبيرة؟... لكننا على الناحية الأخرى من النهر المضطرب، نقول إن هذا حال الضعفاء مكسوري الإرادة، أما حال الأقوياء - أو نصف الأقوياء - فهي القدرة على التعامل مع الضغوط الأميركية مهما اشتدت، بأكبر قدر من الاحتمال والاستيعاب والمقاومة، وليس بالضرورة عبر المناطحة الشرسة ولا الصدام الحاد، فنحن ندرك جيدا طبيعة المتغيرات الدولية، التي وضعت أميركا على رأس قوى العالم، وجعلت منها خصما لا يرحم وحكما لا يعدل ووحشا لا يرى إلا دماء فرائسه، وحين تضع النظم الحاكمة، مصالح الأوطان العليا مكان مصالحها الذاتية الضيقة، فستعرف ما تعرفه الشعوب، وتدرك مغزى ما فعلته دول أخرى، وقعت في عين العاصفة وخرجت منها سليمة الإرادة وبأقل قدر من الأضرار، على عكس أميركا التي تفقد كل يوم - بفضل شراسة ضغوطها - المزيد من سمعتها وشعبيتها في العالم كله! حين ننظر في صميم الأمور بدقة أعمق، نلاحظ أن العامين الأخيرين، وتحديدا بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول الدامية ضد نيويورك وواشنطن، قد شهدا تركيزا شديدا من هجوم المطرقة الأميركية على بلاد العرب والمسلمين، وصل إلى حتى الهجوم على الدين والثقافة والحضارة الحاكمة لهذه المنطقة بشعوبها الغفيرة، وإذا كانت الحرب الأميركية ضد أفغانستان المسلمة، ثم الحرب الأميركية المكملة ضد العراق العربي، شكلتا جبهة الحروب العسكرية المعلنة، فإن جبهة الحروب السياسية والثقافية والاقتصادية، تظل هي الأوضح من الآن فصاعدا، ليس بهدف «القضاء على جذور الإرهاب» كما تردد السياسة الأميركية، ولكن بهدف أوسع وأعمق، وهو إعادة استيعاب واحتواء المنطقة تماما، وفي سبيل ذلك، يجب تدمير هويتها الثقافية الدينية الحضارية، وتطويع ساستها وسياساتها، وتجنيد نخبها وإعادة تربية طلابها وتثقيف مثقفيها، فضلا عن إعادة تدوير اقتصاداتها في دائرة العولمة الأميركية الاحتكارية! وحين كان دوي المدافع يسمع من كابول إلى بغداد، الواقعتين في القبضة الأميركية، كان حديث التغيير الجذري في المفاهيم والثقافات والإعلام والسياسات، يدوي في باقي العواصم العربية والإسلامية، فهذه الفرصة التي جاءت قد لا تتكرر، وانظر مدى استجابة بعض حكوماتنا للمطالب الأميركية، من تغيير مناهج التعليم، إلى قضية المراكز والمدارس والجمعيات الإسلامية، حتى ولو كانت غير متطرفة، ومن إطلاق حرية القطاع الخاص واحتكار الاقتصاد في أيدي أفراد وجماعات محدودة، إلى إطلاق حرية الإعلام الأميركي عبر صحف وتلفزيونات، تعمل على تغيير المفاهيم، ومن «تنظيف» بعض الدول العربية من أسلحتها المؤثرة، إلى تهديد دول أخرى بالسحق والتدمير، ومن تحرير إرادة «إسرائيل» في الفتك بالشعب الفلسطيني قتلا وتدميرا وإذلالا، إلى تضييق بل شل إرادة الدول العربية حتى عن الاحتجاج... وهلم جرا. ومن تكرار القول الممل، إن إصلاحات ضرورية، مثل إطلاق الحريات وتعزيز التوجه الديمقراطي، وتحديث مناهج التعليم، ومحاربة التطرف والإرهاب، وإصلاح مسارات التنمية الاجتماعية العادلة، مطالب وطنية وقومية، قبل الضغط الأميركي وبعده، ولكن استغلال السياسة الأميركية لها في هذه الظروف العصيبة، وضعها أمام الناس في موضع الاشتباه، وخصوصا في ظل الإدراك الشعبي الواعي أن أميركا بالذات هي التي طالما تجاهلت مآسيهم التاريخية، مع الفقر والاستبداد والتخلف، وبنت تحالفاتها المعروفة مع من سببوا الفقر والتخلف ومارسوا الاستبداد... فلماذا الآن هذا التحول؟! لقد أوضح الرئيس الأميركي بوش الابن، السبب في حديثه الأخير عن «حال الاتحاد»، حين ركز على «إقامة الشرق الأوسط الكبير» الذي تعمل السياسة الأميركية على تشكيله وفق مفاهيمها «الديمقراطية» ومصالحها الاستراتيجية، وفي مقابل تأكيده إشاعة مفاهيم الديمقراطية الأميركية، بل وفرضها على هذا «الشرق الأوسط» الكبير، طريقا للاستقرار والأمن، تجاهل تماما السبب الرئيسي في افتقاد «الشرق الأوسط» الاستقرار والأمن، ونعني وجود «إسرائيل» قاعدة للعدوان وبوقا للكراهية وجلادا دمويا للشعوب، ذلك أن «إسرائيل» في سياسته جزء رئيسي من الرسالة الأميركية الهاوية، وليست جزءا من «الشرق الأوسط» المقلق الدموي الإرهابي! والحقيقة التي لا يمكننا إنكارها، هي أن هذه السياسة الأميركية الشرسة ونظريتها في الحروب الوقائية، التي وضعها ويطبقها عتاة المحافظين الجدد، من حول الرئيس، نجحت خلال العامين أو الثلاثة الأخيرة في الهيمنة على بعض مفاتيح الصراعات وبؤر التوتر في المنطقة العربية وتخومها الإقليمية، ما شجع هذه السياسة على تصعيد ضغوط المطرقة الحديد، وصولا إلى الحد الأقصى... بلا حاجة رئيسية إلى مساعدة عربية، وفي غيبة واضحة لإسهام عربي حقيقي في تسوية المشكلات والصراعات، رفضا أو استغناء، تمكنت أميركا من تحقيق بعض أهم أهدافها السياسية العسكرية الاستراتيجية، فقد احتلت أفغانستان على التخوم الشرقية، واحتلت العراق في القلب العربي، وأتاحت لـ «إسرائيل» حرية احتلال ما تبقى من فلسطين، وعززت وجود قواتها وأساطيلها وقواعدها في المياه والأرض والسماء العربية، بخلق أمر واقع مفروض، وجاورت بوجودها العسكري الثقيل أكثر من دولة عربية ضاغطة مهددة. وبالموازاة فرضت إرادتها على إعادة تشكيل العراق الجديد، بعد الحرب الضروس، وسحب إيران إلى ساحة فتح منشآتها النووية للتفتيش الدولي بما يضمن محاصرة قوتها واستيعابها واحتوائها، وقفزت جنوبا لتفرض على الأطراف السودانية المتصارعة اتفاقات التسوية التي رأتها، ثم انتقلت غربا «لتنظف» ليبيا مما أسمته أسلحة الدمار الشامل، وحاصرت مصر في المنتصف حصارا سياسيا ومعنويا، تؤججه حملات إعلامية قاسية، تصف مصر «صديقة أميركا الأهم» أوصافا قاسية وتوجه تهديدات عصبية شديدة، تحمل من ضربات المطرقة الحديد الشيء الكثير، القائم والمنتظر! بقيت سورية ومعها لبنان، وكلاهما الآن في المرتبة الأولى من هجمات المطرقة السياسية الإعلامية، استعدادا ربما للمطرقة العسكرية، بضغط مزدوج، من القوات الأميركية في العراق شرقا ومن القوات الصهيونية في الغرب، والهدف هو ردع سورية وتدمير حزب الله في لبنان، الذي تعتبره أميركا «إرهابيا»، وهي أمور لم تعد سرا حربيا، بل أصبحت أخبارا منشورة تتداولها الصحف العالمية وغير العالمية... واقرأ معي ما جاء حديثا في مجلة «غينس انتليغنس» ومقرها لندن عدد يناير/ كانون الثاني ،2004 والذي يؤكد استنادا إلى مصادر مخابراتية موثوق بها، أن وزارة الدفاع الأميركية، تركز الآن على قياس واختبار القدرات العسكرية السورية، وعلى الاستعداد للقيام بعملية عسكرية لتدمير حزب الله، وإرغام سورية على تغيير سياستها ونظمها وممارساتها، سواء فيما تسميه مساعدة «المنظمات الإرهابية»، أو في السماح بتسلل المقاتلين عبر حدودها إلى ومن العراق، أو في امتلاك أسلحة دمار شامل مخزونة لديها قديما، أو مهربة إليها من النظام العراقي السابق! وبقدر ما أن إطلاق مثل هذه التهديدات والتسريبات، يهدف إلى ترويع سورية، وإقلاق لبنان، بقدر ما ان «المعلومات» بشأن انفتاح شهية الصقور الأميركية للهجوم العسكرية على سورية خصوصا، أصبحت في أيدي عواصم عالمية وعربية كثيرة، واضعة سورية تحت المطرقة المنفلتة نفسيا وسياسيا وعسكريا... وبصرف النظر عن الهدف الحقيقي من هذه التهديدات والتسريبات، فإن الجموح العسكري لصقور «البنتاغون» بزعامة رامسفيلد ونائبه وولفوفيتز، بمساندة من نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، يجعلنا نتوقع ما هو أكثر، فرضا لتغييرات جوهرية في المنطقة خلال العام الجاري، وقبل موعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر المقبل. وبدلا من أن تجتهد العواصم العربية في الإعداد الجيد لمواجهة هذه الملفات الصعبة، والتعامل الناضج مع هذه التهديدات والتغييرات المفروضة تحت وقع المطرقة الأميركية، وتضع استراتيجية واضحة أمام القمة العربية المنتظرة، نراها تناور لتراوح، وتبادر لتتراجع، وتبرر لكي لا تقرر... ولله الأمر من قبل ومن بعد..

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 525 - الخميس 12 فبراير 2004م الموافق 20 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً