العدد 525 - الخميس 12 فبراير 2004م الموافق 20 ذي الحجة 1424هـ

الخوف على الإسلام لا منه

البغدادي والصلة ما بين الفلسفة والحكمة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في كتابه «الفرق بين الفرق» يسخر الامام البغدادي من فلاسفة عصره وينتقدهم ويرى ان افكارهم ليست جديدة وانما اخذوها عن العرب. فالحكماء العرب برأي البغدادي سبقوا الفلاسفة العرب والمسلمين زمنيا واسهموا في انتاج فلسفة «حكمة» قبل ظهور التيار الفلسفي في نهاية العصر الأموي وفي مختلف العصور العباسية. استند البغدادي في تهمته على مجموعة مصادر منها الشعر العربي في العهد الجاهلي وغيره من أمثال عربية وردت في الروايات والقصص المنقولة شفاهيا أو المتوارثة من جيل إلى آخر. ولا يكتفي البغدادي في التهكم والسخرية من فلاسفة عصره بل يذهب إلى اتهامهم بسرقة افكار حكماء العرب و»الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الاصناف الحميرية». فهؤلاء العرب تكلموا الحكمة حين ذكرت «في اشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان، ولم يكن في زمانها باطني ولازعيم للباطنية» «ص 295». فكل هذه الحكمة «عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها إلى زعماء الباطنية» «ص 299». كلام البغدادي يكشف عن طبيعة المعركة الفكرية في عهده التي اندلعت بين الفلاسفة والفقهاء وكان عنوانها السؤال المحدث: من هو المسلم؟ سؤال «من هو المسلم» فتح الباب على اسئلة كثيرة استدعت الكثير من الاجوبة. ومن تلك الاجوبة رد البغدادي على ادعاء الفلاسفة بانهم اضافوا إلى الفكر الاسلامي الشيء الجديد وهو الفلسفة «الحكمة». فما كان من الفقهاء الا ان ردوا على الفلاسفة قولهم واشاروا إلى ان جديدهم ليس جديدا بل هو قديم وقبل الاسلام. وقياسا على سؤال «من هو المسلم» طرح السؤال من هو الفيلسوف؟ «صاحب الحكمة». وعلى السؤال الثاني بدأت الاجابات المختلفة. فهناك من قال ان الفلاسفة اخذوا افكارهم من ديانات «معتقدات» قديمة ومدارس كلامية كانت منتشرة في بلاد الشام والرافدين ومصر وفارس والاناضول واليونان والهند والصين وغيرها من دول الجوار وحضارات سابقة على ظهور الاسلام. وجاء البغدادي ليضيف إلى تلك الشعوب والحضارات والمعتقدات والمدارس قبائل العرب التي نطقت بالحكمة «في جاهليتها بالتجارب» وذكرت «جميع طبائع الحيوان» في «اشعارها وامثالها» من دون ادعاء أو زعم على عكس فلاسفة عصره. فهؤلاء ادعوا العلم من غير وجه حق وانتسبوا إلى حركات سياسية باطنية تدعي الاسلام ظاهرا وهي ضده فعلا. فالبغدادي يربط أهل الباطنية بالدهرية وبالمجوس الذين يدعون نبوة زرادشت، وكذلك الصائبة وتيارات تدعي نبوة هرمس وواليس ودوردثيوس وافلاطين وجماعة من الفلاسفة وسائر اصحاب الشرائع. والباطنية برأي البغدادي زعمت «ان الانبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبا للزعامة بدعوى النبوة والامامة». ثم قامت الباطنية وفق البغدادي بتأويل كل ركن من اركان الشريعة «وحملوا اليقين على معرفة التأويل» «ص 279». كلام البغدادي عن الصلة ما بين الفلسفة «المترجمة عن لغات قديمة» والحكمة «المأخوذة من اشعار العرب وامثالهم» يعكس سلسلة مخاوف على الهوية الاسلامية. وتعريف المسلم من خلال طرح سؤال «من هو؟» يؤكد تلك المخاوف الناجمة عن الخلط ما بين الدين والفلسفة بداعي التأويل الى درجة أصبح التأويل يستخدم لشرح أو تفسير «اليقين». هذه المخاوف السياسية - الايديولوجية انتجت سلسلة مدارس فكرية اعتمدت منهج المقارنة بين الاسلام وغيره لترسيم حدود الاختلاف ما بين عقيدة المسلمين والعقائد المستوردة «المترجمة» عن لغات ومدارس قديمة كانت منتشرة في الديار الاسلامية قبل عصر الفتوحات. الخوف على الهوية «العقيدة» كان اساس المعارك الكلامية - السياسية. ومن هاجس الخوف تشكلت حلقات من المخاوف التي بدأت من سؤال تعريف المسلم. فالتعريف بهوية المسلم يوضح الفارق بينه وبين غيره وخصوصا تلك الفرق التي عرفت بالباطنية وتظاهرت بالاسلام. سؤال «من هو المسلم؟» فتح الباب على اسئلة كثيرة ومن الاجوبة بدأ الفرز السياسي - الايديولوجي وارتسمت الفروقات بين المدارس والاتجاهات والاجتهادات. وعلى هذا القياس تحدث الفقهاء والأئمة عن اصناف من المسلمين وغير المسلمين. فهناك المسلم الذي خلط توحيده ببدعة، وهناك المسلم الخارج من ملة الاسلام، وهناك المسلم المخالف للاجماع، وهناك فرق منتسبة الى الاسلام في الظاهر مع خروجها عن جملة الأمة. ومن هذه تشعبت هذه الفرق وأصبحت الواحدة اصنافا كثيرة. الأصناف الكثيرة هذه تنتمي في جملتها إلى بدايات ظـهور الإسلام وتحديدا في عصر الخليفة الراشد الاول حين ارتدت بعض قبائل العرب بعد رحيل الرسول «ص» عن العقيدة او طالبت بتخفيف بعض فرائضها. واكثر المرتدين، كما يقول الفقهاء والائمة، انقسموا إلى فئتين: الأولى اسقطت الزكاة وتمسكت بوجوب الصلاة إلى الكعبة «من بني كندة وتميم» والثانية اسقطت الزكاة ووجوب الصلاة إلى الكعبة معا «من بني حنيفة وأسد». وبسبب هؤلاء اندلعت «حروب الردة» وانتهت بانتصار الاسلام في عهد الخليفة الأول. وعلى هذا وضعت قاعدة شرعية تحدد هوية المسلم وهي، كما يذكرها البغدادي، كل من أقر بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وانه عادل حكيم مع نفي التشبيه والتعطيل عنه، واقر مع ذلك بنبوة جميع انبيائه وبصحة نبوة محمد «ص» ورسالته إلى الكافة وبتأييد شريعته وبوجوب الصلوات الخمس إلى الكعبة وبوجوب الزكاة وصوم رمضان وحج البيت على الجملة. هذا التعريف الذي وضعه البغدادي لهوية المسلم وصفاته حدد الاطار العام للمعركة العقائدية - السياسية التي كان يخوضها العلماء والفقهاء والائمة ضد الفرق التي تظاهرت بالاسلام أو انحرفت عنه أو اخذت بعضه واهملت بعضه أو خلطت عقيدة التوحيد ببدعة تخالف الاصول. والمخالفة هنا، وبرأي البغدادي، ليست جديدة فهي تنتمي في جذورها إلى اصول مختلفة منها ما هو عربي ومنها ما هو غير عربي. فالردة عن الاسلام لم تكن جديدة في العهد العباسي وانما اعيد انتاجها أو تأسيسها على قواعد فلسفية ليست غريبة عن الحكمة العربية القديمة ولا عن القبائل العربية «كندة، تميم، حنيفة، وأسد». معركة الهوية والدفاع عن العقيدة كانت كلامية - سياسية ولم تكن عنصرية وهذا هو جوهر الحضارة الاسلامية التي اتسمت بالتسامح والانفتاح والتعايش وقبول الآخر حتى لو انتمى إلى فرقة باطنية تدعي الاسلام وتتظاهر به. فالاسلام آنذاك كان رأس الحضارة العالمية ودولته كانت الاقوى في عصرها ومع ذلك لم يلجأ إلى الغاء الآخر المختلف بل دخل معه في سجالات ونقاشات فكرية - فلسفية من دون غوص في جزئيات عنصرية ولونية واستعلائية. فالائمة والفقهاء والعلماء كانوا يتحدثون من موقع القوة «الايمان بالتوحيد والعقيدة» وليس من مكان التشاوف والقهر والاستبداد. وهذا يدل على مدى التسامح الذي وصلت إليه الحضارة الاسلامية. ففي الوقت الذي كانت هي الاقوى طرح الفقهاء والائمة اسئلة الخوف على الإسلام لا منه، وهي اسئلة تكشف عن المخاوف التي شكلتها الفرق على انواعها على هوية المسلم. وأهم من هموم الأسئلة كانت الأجوبة فهي لم تتحدث عن الجنس واللغة بل تركزت على العقيدة. فالمفاضلة كانت في درجات الإيمان وليست في درجات اللون والقوم والقبيلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 525 - الخميس 12 فبراير 2004م الموافق 20 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً