العدد 5281 - الإثنين 20 فبراير 2017م الموافق 23 جمادى الأولى 1438هـ

ثغرات في رواية تاريخ التعليم النسائي

رضي السماك

كاتب بحريني

على رغم ما بذله الباحث الأكاديمي عبدالحميد المحادين من جهود مضنية في جمع المصادر والمعلومات (الشفهوية والوثائقية) اللازمة في أعماله البحثية لتأصيل بدايات المسيرة التعليمية الحديثة في البحرين، ورصد أبرز محطاتها التاريخية، ومعالم تطوراتها على امتداد القرن الآفل، إلا أن ثمة ثغرات كثيرة شابت أعماله البحثية بشأن تاريخ التعليم، ومنها رواية تاريخ التعليم النسائي، وهذا ما استدركه هو نفسه تحوطاً في كتابه الموسوعي «خطوات باتساع الأفق» قائلاً «بقدر ما لدي من معلومات كتبتُ وبقدر ما سمعت مشافهةً كتبتُ...»، وهذه لعمري صفة الباحث المتعمق ذي التواضع العلمي. وعلى رغم إحباطه من رجال ضنوا عليه بالمعلومة والوثيقة، مؤثرين عليه لذة الاستمتاع بحفظها تُحفاً في منازلهم، فما بالنا بسيدات ليس من السهولة بمكان التواصل معهن في مجتمع تغلب عليه العادات الشرقية حتى في أوساط نخبته المثقفة والمتعلمة، ولربما لهذه النقطة وغيرها من العقبات الموضوعية الأخرى التي واجهها باحثنا، لم يتمكن من تسليط الضوء بما فيه الكفاية على واقع العملية التعليمية النسائية في ضوء بيئتها الاجتماعية المتخلفة، مع أن ظهور التعليم النسائي في أي مجتمع مؤشر مهم على مدى نهوضه برمته من قاع التخلف العميق.

وللأسف فإن رحيل جيل الرائدات الأوائل في التعليم النسائي دون أن تترك واحدة منهن على الأقل للمكتبة البحرينية مذكراتها أو شهاداتها في هذا الصدد، هو من ثغرات رواية تاريخنا التعليمي النسائي في الممارسة العملية، وبخاصة فيما يتعلق بالبدايات الأولى، على سبيل المثال شهاداتهن كمديرات أو معلمات في أول مدرسة ابتدائية للبنات (خديجة الكبرى في المحرق 1928) أو في أول مدرسة ثانوية للبنات بالمنامة 1950، أو كمديرة أو معلمة في أول مدرسة في القرى، وهو حدث بالغ الأهمية لكن قُيّض له أن تأتي روايته على يدزهرة مصطفى (أول مديرة لمدرسة جدحفص الابتدائية التي تأسست مع مدرسة البديع العام 1958) والتي واكبت وأسهمت في العملية التأسيسية للمدرسة. وللأمانة فإن جيل الروّاد في تعليم البنين ليس أفضل حالاً إلا نسبياً. ولقد جاءت رواية مديرة مدرسة جدحفص عن تجربتها العملية التربوية والتعليمية في إدارة المدرسة منذ تأسيسها ثرية بدلالاتها التعليمية والثقافية والاجتماعية، وذلك في الكتاب الجميل الذي أعدته ابنتها المهندسة غادة المرزوق بعنوان «قدر... وسيرة كفاح ترويها زهرة مصطفى»، وأنا مدين للمؤلفة بالامتنان والتقدير لسعة صدرها وصبرها في الإجابة عن الكثير من تساؤلاتي طوال ما يقرب من شهر بشكل متقطع بمعلومات أكثر تفصيلاً لم ترد غير فيه. وعلى رغم صغر حجم الكتاب فإنه زاخر بالمعلومات المهمة عما واجهته من تحديات ومصاعب جمة، ليس من خلال إدارتها المدرسة من الداخل فحسب، بل ومن الخارج في التعامل مع المحيط الاجتماعي للمد الأوسع. وبقدر ما أسهمت المدرسة تحت قيادتها في تعليم فتيات المنطقة والقرى المجاورة لها، بقدر ما كان لها أيضاً دور على درجة من الأهمية في رفع مستوى وعيهن العلمي والثقافي، وقد وثقت ذلك في شهادات عينة من خريجاتها بعضهن كُن من خريجات أول دفعة من المدرسة، واللواتي عبّرن عن سعادتهن وذكرياتهن الأثيرة عن ذلك الدور وماله من أثر في تغيير مجرى حياتهن.

وتحت عنوان «مواقف وتحديات» تروي المديرة أهم 3 تحديات إدارية واجتماعية واجهتها: التحدي الأول: إصرارها على رفض تغيّب الطالبات في المناسبات الدينية غير الرسمية (خاصة أن هذه الظاهرة لا وجود لها في مدارس بلدها لبنان قاطبة). التحدي الثاني: عدم تمكن المدرسة من استيعاب تزايد أعداد الطالبات الملتحقات بالمدرسة، فبعدما كانت المدرسة مقتصرة على تسجيل طالبات جدحفص والقريتين المجاورتين لها (السنابس والديه) واجهت الإدارة مع مطلع العام الدراسي 1964 / 1965 طلبات كبيرة من أهالي قرى كثيرة على شارع البديع لتسجيل بناتهن، حتى اضطرت لحشر 70 طالبة في الفصل الواحد (بلا تكييف وفي العصر الطباشيري)، وتم تخفيف المشكلة ببناء طابق ثان لتتفاجأ بمشكلة أخرى من نوع آخر؛ بسبب ارتفاع هذا الطابق في مبنى المدرسة الملاصق للجامع، ما أدى إلى «إثارة حفيظة بعض الأهالي المتعصبين والرافضين أصلاً لوجود المدرسة في المنطقة»، بحسب تعبيرها (ص 62)، لكن يُحسب لها هنا دقتها الموضوعية بقولها «بعض الأهالي» والابتعاد عن التعميم، وإشادتها بالبعض الآخر من كبار أهالي جدحفص الذين ساعدوها في التغلب على هذه المشكلة.

التحدي الثالث: وكان يتمثل فيما حز في نفسها بوجود نظرة متعالية من فتيات المدن تجاههن حتى بعد دخول التعليم النسائي في القرى! (رغم أن جدحفص كان طابعها الاجتماعي حينئذٍ يشكل إلى حد ما توليفة من الطابع الريفي والمديني في آن واحد، وكانت في عصر ما عاصمة البحرين)، وهذه النظرة الفوقية لأهالي القرى لا تختص بها البحرين فحسب، بل هي سائدة في عواصم عالمنا العربي على رغم أن الكثير من مدنها يحمل سمات كلا الطابعين الريفي والمديني. وقد ساءها وجود مثل هذه «النظرة» على رغم أنها كانت قادمة من بيروت إحدى عواصم التنوير العربية القليلة، وخاضت إدارة المدرسة بقيادتها منافسات كثيرة متنوعة مع مدارس المدن أثبتت من خلالها ان طالبات القرى لا يقلن شأناً وجدارةً في النبوغ العلمي والثقافي والمهارات الفنية والثقافية عن طالبات المدن.

كما تخصص المؤلفة جزءاً من صفحات كتابها لرواية والدتها مديرة جدحفص عن مصادفات قصة العلاقة الانسانية التي بدأت بينها وبين أحد أبناء جدحفص في أواخر الخمسينات -والد المؤلفة- والتي انتهت بالزواج.

وبطبيعة الحال فإن كتاب المرزوق الذي يروي بإيجازٍ وافٍ تجربة والدتها في إدارة أول مدرسة تُؤسس بالقرى، صدر العام 2009 وكتاب الباحث المحادين الآنف الذكر ماثل للطبع حيث صدر العام 2010، ولو صدر الأول قبل الثاني بوقت كاف لوقع باحثنا على كنز ثمين، ولما تردد بكل تأكيد في الاستفادة من بعض معلوماته وتضمينه كتابه الذي كان المرجع الأساسي لمحاضرته ملتقى كانو الثقافي. مهما يكن فما يشفع للباحث ويُشكر عليه حرصه على أن يذكر في مقدمة كتابه، أن ما رواه بشأن تاريخ التعليم في البحرين ليس في النهاية سوى حصيلة جهد فرد واحد، يؤسس لجهد منتظر أكثر شمولية وأكثر تفصيلاً.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5281 - الإثنين 20 فبراير 2017م الموافق 23 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً