العدد 5312 - الخميس 23 مارس 2017م الموافق 24 جمادى الآخرة 1438هـ

عندما يحتلُّ الخبراء مكان السياسيين

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

عندما تحدثنا في عمود الأسبوع الماضي عن محاولات تقزيم، أو حتى إماتة، السياسة في مجتمعات العرب، فكراً وتنظيماً ونشاطاً، فإننا كنا بالطبع نشير إلى سياسة ذات مواصفات نعتبرها أساسية. لقد كنا نتكلم عن السياسة القائمة على مبادئ وممارسات الأخذ والعطاء، على التنازلات المتبادلة، على قبول الآخر والتعايش معه بتسامح، على التشارك المجتمعي العادل في الثروات والقوة المادية والمعنوية، أي على الأسس والممارسات الديمقراطية في تنظيم حقل السياسة التي تتلخّص في كبرى أسسها: العقلانية والحقيقة والعدالة.

ذلك أنه عندما لا توجد حياة سياسية كتلك، فإن فراغاً هائلاً سيوجد في المجتمع. وكما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فإن الحياة المجتمعية هي الأخرى لا تقبل الفراغ أو الخواء. إذ عند حصول مثل ذلك الفراغ السياسي تهبُّ أعاصير، وتشتعل حرائق من مثل الطائفية العنيفة المجنونة المتزمتة في الدين أو المذهب، أو من مثل الولاءات القبلية والعشائرية التي تعلو على الولاء للوطن والمواطنة، أو من مثل المطالبات الانفصالية العرقية، والتي جميعها تؤدي إلى تمزيق الأوطان أو إدخالها في حروب أهلية، أو جعلها نهباً لتدخلات الخارج والأعداء. المفجع أن تلك الصورة المرعبة المأساوية هي التي نراها تحدث عبر طول وعرض الوطن العربي بظلال وألوان متفاوتة.

لكن هناك جانب آخر نحتاج لإبرازه، إذ إنه لا يتمظهر كعواصف ونيران، وإنما يكوُن إشكالية في نوع نظام الحكم وفي مدى كفاءته. إذ في هذه الأجواء التي تتميز عادة بانطواء الأفكار والمبادئ والقيم الأخلاقية على نفسها، وبانزواء طبقة السياسيين الجادين غير المهرجين، تنتقل المجتمعات إلى أن تمسك بخناقها ظاهرتان جديدتان تحملان الكثير من الأخطاء.

الظاهرة الأولى هي قيام وتحكُم ثقافة اقتصاد السوق المنفلت الذي لا تحكمه إلا قيمة واحدة، هي قيمة الربح، وذلك من خلال المنافسات المجنونة المتقاتلة بلا ضوابط ومن خلال الفساد وشراء الذمم. ومن أجل تبرير النتائج الكارثية للظاهرة الأولى، وعلى الأخص تبرير ازدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، يستعان بالظاهرة الثانية: ظاهرة الصعود المذهل لمن يسمُّون أنفسهم بالاختصاصيين الخبراء القادرين على ممارسة سحر الحلول ووضع الخطط التنموية الخمسية أو العشرية أو وصولاً حتى إلى الثلاثينية.

لكن هؤلاء الخبراء سيعتمدون في تقديم استشاراتهم على ثالوثهم المقدس، المتمثُّل في الإحصائيات والمعادلات الرياضية واستطلاعات الرأي المعبرة عن مشاعر مؤقتة ومتقلبة. لن يكون هناك مكان للمبادئ وقيم الرحمة والتعاضد والتوازنات المجتمعية الإنسانية، إذ ستحل محلها معادلات مدارس ومؤسسات العولمة المقدسة التي تحتكم فقط إلى الإيمان المطلق بقدسية متطلبات حرية الأسواق وتعاظم الأرباح التي لاسقف لها.

لكن هؤلاء الخبراء لا يكتفون بممارسة طقوسهم في الحجرات المظلمة وتقديم استشاراتهم إلى أجهزة حكم كسولة متثائبة، وإنُما يحتلُّون المساحة الأكبر من حقول الإعلام السمعي والبصري والتواصلي الجماهيري.

لنلاحظ العدد الهائل من الخبراء الذين تستضيفهم وسائل الإعلام، بعد كل نشرة أخبار، ليقدموا تنبؤاتهم وتخميناتهم وادعاءاتهم وتوجيهاتهم في حقول السياسة والمال والاقتصاد والأمن والإرهاب والبيئة. حتى ما يجول في خواطر الناس ونفوسهم أصبح موضوعاً لهؤلاء الخبراء.

لكن ما لا يمكن إغفاله هو الخليط العجيب في تركيبة ما يقدمه هؤلاء، إذ يختلط العلم بالظن والتخمين، الاعتقاد بالمعرفة، والعواطف بالعقلانية. ويشعر الإنسان أن التواضع قد اختفى في عالمنا.

عندما تغيب الأفكار السياسية الكبرى وينزوي السياسيون الملتزمون بتلك الأفكار، ويقبع المفكرون الإنسانيون في زوايا المؤتمرات ليتحدثوا مع أنفسهم، وتصبح قيمة العدالة كلمة أيديولوجية يُستهزأ بها، فإن فراغاً سياسياً هائلاً يحدث ليملأه الخبراء الذين كما قلنا ونكرر، لا يحتكمون إلا إلى ثالوث المعادلات الرياضية والإحصائيات واستطلاعات الراي، الثالوث الذي لا يهمه أن يعيش الإنسان في عالم لا رحمة فيه، ولاعدل، ولا إنصاف، ولا تضامن بشري.

في هذه الأجواء لا يقدُّم الخبراء التحاليل والبدائل فقط، وإنما يُسمح لهم أيضاً باتخاذ القرار. لم لا؟ إذا كانت السياسة، في المجتمع وفي السلطة، قد تخلت عن ممارسة أهم أسباب وجودها وهو اتخاذ القرار وتحمُل مسئولياته.

في المحصلة، الذي يدفع الثمن هو الإنسان المواطن. فإذا رفض وثار من أجل حريته وكرامته وعدالة عيشه قمع أو سجن أو قتل أو دمر مسكنه أو شردت عائلته في المنافي.

وإذا استكان وأصبح لامبالياً انبرى المثقفون والمفكرون بلومه وتقريعه واستنهاضه وتحميله مسئولية الكوارث.

إنها حلقة مفرغة تتأرجح بين الثورات والحراكات المهزومة وبين الهدوء والتثاؤب الممل. إنه ثمن تغيّب وغياب الممارسة السياسية الحقيقية المعقولة الصادقة السلمية في وطن العرب.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5312 - الخميس 23 مارس 2017م الموافق 24 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:11 ص

      لا يقال ان القانون في امريكا وبريطانيا يحكم وانما تدار باحزاب في اطار المصلحة الخاصة للبعض. فلذا يمكن القول ان ديمقراطيه بلا قانون سايدغ ليسود ويعم الامن والامان للجميع. فكما لا يخفى ان ما يخفيه بطانة جلالة الملكه ليس اقل مما يخفيه بطانة البيت الابيض. فادارة بقيادة لا تصب الا في مصلحة النخب كما تسمى هذه الجماعات وهي نابعه وتابعه لنادذ باريس. اي الجماعة التي تدير العالمي في الخفاء وتسمى الامبراطوريه الخفيه وهي مجموعه من ملاك البنوك والشركات العملاقه.

    • زائر 2 | 12:56 ص

      (في المحصلة، الذي يدفع الثمن هو الإنسان المواطن) نعم نحن وبكل فخر ندفع الثمن في وطننا للمطالبة بالإصلاح رغم ارتفاع الكلفة علينا لتعاون دول كبرى لتوقف مسار مطالبنا التي ربما تؤثر على مصالحهم هكذا هم ينظرون لتحرّر الشعوب ونيلها حريتها سوف يؤثر على ابتزازهم لبلادنا العربية والخليجية بالذات .
      رأينا قضية لوكربي وكيف استغلّت اسوأ استغلال وحتى اتت على نهاية حاكم ليبيا وهم لا زالوا يلعبون نفس الادوار وبطرق مختلفة وسوف يشلحون بلداننا من كل شيء حتى نصبح عرايا

    • زائر 1 | 12:45 ص

      اكبر مصيبة ان يرى المواطن وطنه يسير نحو الهاوية ويضيع ولا يستطيع فعل شيء لوطنه. وضع الوطن الآن هو بمثابة وضع الولد الذي يعاني من مرض عضال لا يستطيع المواطن تقديم أي شيء لكي ينقده من مرضه .
      ها نحن نكتب ونعلّق ونثرثر وهو أكثر ما نستطيع فعله ونحن ايضا محاسبون عليه ولو عرفوا شخصياتنا وما يدور في
      نفوسنا من آلام على وطننا لاعتقلنا وسجنا مثل الباقي وربما جاي علينا الدور

اقرأ ايضاً