العدد 5348 - الجمعة 28 أبريل 2017م الموافق 02 شعبان 1438هـ

قليل من الماضي وكثير من الحاضر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأتراك هم حلفاء حقيقيون للأميركيين الذين كانوا يهددون روسيا من جهة الجنوب كي يكمِلوا مشروع القاعدة الأطلسية في الخاصرة الروسية. والدَّعم الذي لقيه المقاتلون الشيشانيون من تركيا يأتي أساساً من ذلك التركيب الاستراتيجي المعقد. كنتُ أستمع إلى شهادة وزير الداخلية الروسي الأسبق الفريق أناتولي كوليكوف. كان الحديث جلّه بشأن الحربين الشيشانيتيْن الأولى (1994م - 1996م) والثانية (1999م - 2000م). كان يتحدث عن دور الأتراك في تزويد المقاتلين الشيشان بالمال والسلاح وتأهيلهم عسكرياً. لن تكون هناك أيّة غرابة في مسألة ذلك الدعم إلَّا إذا ركّزنا في التاريخ جيداً. ففي تلك الأثناء وتحديداً بين عامَيْ 1994م و1996م لم تكن تركيا إسلامية الهوى، ولم يكن فيها حزبٌ للعدالة والتنمية كما هو الآن.

لقد كانت تركيا في تلك الفترة علمانية متوحِّشة. وعندما جاء نجم الدِّين أربكان كشخصية ذات ميول إسلامية إلى رئاسة الوزراء في تركيا نهاية شهر يونيو/ حزيران 1996م، كانت الحرب الشيشانية الأولى على وشك الانتهاء ولم يتبقَّ سوى شهرين على أن تضع أوزارها وذلك في شهر أغسطس/ آب 1996م. وحتى مع افتراض وجود أربكان في السلطة فقد كان رئيساً محكوماً من الجيش التركي القوي حامي العلمانية كما يُسمّى آنذاك.

أما الحرب الشيشانية الثانية فكان اندلاعها في أغسطس من العام 1999م ولغاية مايو/ آيار 2000م أي بعد إطاحة الجيش التركي بنجم الدين أربكان بنحو عام وشهرين تقريباً، وبالتالي يصبح الأمر أكثر وضوحاً منه في الحرب الأولى؛ إذ لا رئيس «زينة» موجوداً في الدولة ولا أثراً أصلاً لديناميكية إسلامية في صلب السلطة التركية. هنا يأتي السؤال الجوهري من كل ذلك: لماذا إذاً دَعَمَ الأتراك (العلمانيون) الشيشانيين (الإسلاميين) في حربهم ضد الروس مع كل هذا التناقض الأيديولوجي؟!

الإجابة باختصار هي: المصالح. فالأتراك هم حلفاء حقيقيون للأميركيين الذين كانوا يهددون روسيا من جهة الجنوب كي يكمِلوا مشروع القاعدة الأطلسية في الخاصرة الروسية. والدَّعم الذي لقيه المقاتلون الشيشانيون من تركيا يأتي أساساً من ذلك التركيب الاستراتيجي المعقد، فهو دعم ليس لكونهم إسلاميين وأن واجباً دينياً فَرَضَ عليهم ذلك بقدر ما هي المصالح، التي جَمَعَت شبكة من العلاقات الممتدة من غرب الأطلسي ولغاية تركيا مروراً بالمناطق الوعرة في جورجيا وآذربيجان. وربما يجعلنا هذا اليوم نتأمل الموقف التركي ذاته في الأزمة السورية ودعمها للمعارضة المسلحة، التي تحوَّلت تركيا بالنسبة لها أشبه بغرفة عمليات نسقت أشرس معارك الأزمة.

هذا الحديث يقودني إلى كتاب مهم جداً لـ نبيل مطر يتحدث عن علاقة الأتراك بالإنجليز في القرن السادس عشر والسابع عشر. وهو صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الكتاب ضخم ويقع في 384 صفحة ومُقسّم على فصول مختلفة عدة. لكن من أهم ما فيه هو تناوله (عبر الاعتماد على الوثائق المسكوت عنها) أسرار العلاقات الدولية التي كانت سائدة في ما بين الإنجليز والأتراك في تلك الفترة، وكيف كانت المصالح تلعب دورها من دون أيّ اعتبار آخر، وكأن الأحداث الجارية اليوم نسخة مما حدث قبل أزيد من 300 عام بين الغرب وتركيا.

يشير الكتاب إلى قيام الملكة إليزابيث الأولى خلال العقدين الأخيرين من القرن السادس عشر بالتعامل مع الأتراك. ويسرد نصوصاً تبادلها السلطان العثماني مراد (الثالث) الذي حَكَمَ ما بين عامَيْ 1574م - 1595م والملكة البريطانية إليزابيث الأولى التي حَكَمَت ما بين عامَيْ 1533م - 1603م إلى الحدّ الذي قيل في أوروبا حينها أن الملكة قد تمنح أحد موانئ إنجلترا للأتراك كما عبَّر عن ذلك خليفتها في الحكم.

وكما يشير الكتاب فقد أمرت الملكة البريطانية أن يُطلَق سراح العبيد المسلمين ممن وقعوا في الأسر عند السفن الإسبانية لمغازلة تركيا العثمانية. ويشير إلى خطاب حرّره في العام 1625م السفير الإنجليزي في إسطنبول السير توماس رو موجّه إلى الملك جيمس الذي خلف الملكة «يطلب منه تخويله مبادلة الأسرى الإنجليز في الجزائر بالأسرى الأتراك في أيرلندا». وقد ظهر من الوثائق أن الأتراك شاركوا في حلف عسكري مع الإنجليز ضد الإسبان وهكذا فعل المغاربة كذلك.

ويعرض الكتاب لكيفية انضمام الجنود الإنجليز والإسكتلنديين إلى الجيوش الإسلامية في الشرق ومنها الجيش التركي العثماني في معاركه، إلى الحدّ الذي دفع الملك جيمس لأن يُوجّه نداءً إلى رعاياه من العسكريين للعودة والخدمة في السلك العسكري لإنجلترا، على رغم أن التحاق الإنجليز بالجيوش الأجنبية كان جزء منه يعود لأسباب مادية وللامتيازات التي كانوا يحصلون عليها.

كما يستعرض الكتاب طبيعة التمثيل الدبلوماسي التركي في إنجلترا ومراسلات السلطان مراد الثالث والهدايا التي كان يُقدمها للعرش البريطاني من «أُسُود وسيوف تركية وجياد وقُرون». فالمصالح التجارية والسياسية تجعل كل شيء مباحاً بل ضرورياً. لذلك يشير الكتاب إلى حادثة حصلت في العام 1614م عندما جرت مفاوضات لإتمام زيجة بين سلطان سومطرة من ابنة «سيد إنجليزي رفيع الحَسَب» والسبب هو فائدة ذلك الزواج لشركة شرقي الهند على رغم معارضة القساوسة الإنجليز. بل جُنِّدَ أحد اللاهوتيين كي يُثبت أن هذه الزيجة سليمة شرعاً ويجب أن تمر.

بالتأكيد كانت هذه العلاقات السائدة بين تركيا العثمانية وإنجلترا البروتستانتية كغيرها من العلاقات التي تنسجها الدول مع بعضها. ففي اللحظات التي يكون هناك «تحالف أو تبادل تجاري كانت العلاقات» تصبح أقوى والعكس كما يشير الكتاب. ولم تكن تختلف هذه العلاقات بين الدول المسيحية ببعضها ولا المسلمة ببعضها، إذ إن الدِّين قد أتى في مرحلة تالية بعد المصالح. في المحصلة فإن قليلاً من الماضي يمكنه تفسير كثير من الحاضر.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5348 - الجمعة 28 أبريل 2017م الموافق 02 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 11:11 ص

      البعض أعماهم الانتماء الحزبي الاخواني للذوبان في تركيا الاردوغانية عن قراءة الموضوع كاملا لانه لا يتحدث عن تركيا حصرا ولا عن روسيا حصرا

    • زائر 10 | 7:59 ص

      روسيا طول عمرها دولة فاشله و خصوصاً بعد الاتحاد السوفيتي حتى الافغان بهدلوهم في الثمانينات

    • زائر 6 | 3:26 ص

      العلاقات التركية-الروسية-الأوربية تحكمها موازين القوى في القارة الأوربية ... تركيا دائماً كانت تحظى بدعم فرنسي-بريطاني ضد الروس عندما تقوى شوكة الروس ... ولكن من العبث تصوير أن روسيا دولة غير عدائية لتركيا ... فلا ننسى أن أيام العثمانيين كانت روسيا تريد أن تصبح وصياً على مسيحيي الشرق في السلطنة العثمانية وذلك سبب حرب شبه جزيرة القرم ... كذلك في الحرب العالمية الأولى تحالف العثمانيين مع الألمان ضد محور (فرنسا-بريطانيا-روسيا) ... تركيا عندما تعادي روسيا لا يكون ذلك نيابة عن الغرب، ولكن لمصلحتها.

    • زائر 4 | 1:49 ص

      لدي تعليق على صاحب التعليق الأول . يبدو أنك فهمت المقال بطريقة خاطئة . فالكاتب ذكر في المقدمة عن دعم تركيا للمقاتلين الشيشانيين وهي علمانية كدليل على قيام الدول بوضع استراتيجيات لها بعيدة عن النزعة الآيدلوجية وهو ما تفعله تركيا اليوم في سوريا التي تدعم المعارضة المسلحة تحت عنوان مناصرة أخوة الدين وهي تفعل ذلك من اجل مصالحها في قضايا الطاقة والنفوذ عبر الدين للوصول إلى شبه الجزيرة العربية كما فعلت الدولة العثمانية . ولا علاقة للموضوع بعلاقة تركيا بروسيا

    • زائر 5 زائر 4 | 3:20 ص

      القلم أمانة والكاتب المنصف عليه أن لا يستغفل قراءه بإعطائهم معلومات ناقصة ... فيقول لهم أن تركيا دعمت مقاتلي الشيشان (نعم الجيش التركي العلماني فعل ذلك) لقتال روسيا، ولكن لا يقول لهم لماذا فعلت تركيا ذلك ... صحيح أن تركيا لم تدعم المقاتلين الشيشانيين و لا المعارضة السورية المسلحة لأسباب عقائدية بل لمصالحها القومية ... ولكن هل كنت لتلوم تركيا لو فعلت ذلك عندما كانت موسكو تدعم الإنفصاليين الأكراد في الثمانييات وكان نظام حافظ الأسد يستضيف عبدالله أوجلان على الأراضي السورية؟

    • زائر 7 زائر 4 | 4:12 ص

      رد على زائر 4 . روسيا دولة إمبريالية دموية فعلت ما فعلت في أفغانستان وحافظ الأسد حاكم مستبد وديكتاتوري فاسد
      لكن نريد منكم فقط الاعتراف بأن تركيا دولة توسعية عنصرية دمرت الموصل في العشرينات والأرمن في بداية القرن وأعدمت النخب الوطنية في دمشق أيام عثمانيتها واليوم تمارس نفس الدور في سوريا بعد ان تحالفت مع الفرنسيين لقطع لواء الاسكندرون قبل عشرات السنين!! لماذا لا تستطيعون قول ذلك؟!!! هل النفس الأخواني والطائفي يمنعكم من قول الحقيقة؟؟!! بالله عليكم أجيبونا يرحمكم الله

    • زائر 8 زائر 7 | 5:07 ص

      ومن قال لك أنني من الإخوان عبدة أردوغان والعثمانيين الجدد! أنا لدي مشكلة مع هذه التيارات اليسارية والعروبية التي احترفت صناعة الأصنام حتى أصبحوا يلجؤون لصناعة أصنام غير عربية وغير اسلامية!
      كان من الأولى بالكاتب أن يشير في مقدمته إلى أن هناك تاريخ من الصراع بين روسيا وتركيا امتد لقرون طويلة (يكفيك أن عدد المعارك الحربية بين الطرفين يقدر بالآلاف!) وهذا بمعزل عن عداء الغرب لروسيا والدليل الحرب العالمية الأولى... لا أن يصور لنا تركيا وكأنها مجرد بيدق يدار بواسطة القوى الأوربية ضد روسيا.

    • زائر 3 | 12:56 ص

      المقال جيد وبه معلومات تاريخية لا بأس بها، ولكن ليعذرنا الكاتب بأن نذكره بالآية (ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا) ... لو كنت أنا قارئ المقال معتمد مقالك لفهم طبيعة العلاقة الروسية التركية لكنت الآن ابكي وأكفكف دموعي لهذا الظلم الذي تتعرض له روسيا! يا حرام الغرب يستخدمون تركيا لضرب قوة الخير في العالم (روسيا) ... روسيا يا سيدي لا تختلف عن بريطانيا ولا فرنسا في عدائها للمسلمين ... فقط لأذكرك بشيئ غاب عن ذهنك، جميع أحزاب اليمين المتطرف والنازيون الجدد في أوربا ممولة من المخابرات الروسية.

    • زائر 2 | 12:39 ص

      تكملة لتعليقي المتعلق بالعداء التاريخي بين روسيا وتركيا.
      شخصيا وكباحث متجرد، لا أستطيع تفسير العداء لتركيا من بعض النخب العربية ومحاولة تلميع خصومها (أياً كانوا) إلا بالميول الطائفية لهذه النخب التي تحاول مواراة هذا اللعداء بالفذلكة اللغوية وحشد المعلومات التاريخية بصورة مجتزءة وملغومة.
      يتكلمون عن دعم تركيا للمقاتلين الشيشان في التسعينات من القرن الماضي وينسون دعم روسيا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في الثمانييات، فيُخَيل للجاهل أن تركيا هي البادئة بالعداء ضد روسيا (المظلومة) نيابة عن الغرب!

    • زائر 1 | 12:31 ص

      مقدمة المقال عن تركيا وروسيا غير حيادية على الإطلاق! فالمقدمة تتكلم عن دور تركيا في دعم المقاتلين الشيشان في التسعيانات من القرن الماضي ولا تتلكم عن دور روسيا في دعمها لحزب العمال الكردستاني في الثمانيينات (أي أن روسيا هي البادئة بالعداء وليس تركيا!!) ... أي باحث في التاريخ يعلم جيداً أن روسيا دولة متوحشة ولها أطماع توسعية على حساب الدول المسلمة المجاورة لها (ايران وتركيا)، ولنا خير مثال في حرب شبه جزيرة القرم بين روسيا والعثمانيين، حيث أرادت روسيا منافسة الغرب في أن تكون وصية على مسيحيي الشرق.

اقرأ ايضاً