العدد 5364 - الأحد 14 مايو 2017م الموافق 18 شعبان 1438هـ

ورحل الرئيس الشريف

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عند الثانية من ظهر يوم الخامس من مايو/ أيار الجاري، وقعت حادثة حزينة في منطقة مجيك الموريتانية الريفية (أقصى شمال شرق البلاد). كان هناك رجل يسقي إِبِلَهُ قبل أن يحس بدوار تبعه سقوط على الأرض. ساعده على النهوض سائقه وطبيبه الخاص. ثم نُقِلَ إلى خيمته وسُقِيَ جرعة من الماء؛ لكن وضعه الصحي تدهور بعد دقائق فقط وبشكل مفاجئ ليُفارق الحياة عن عمر ناهز الـ65 عاماً.

كان ذلك الرجل هو المرحوم الرئيس الموريتاني الأسبق الجنرال إعلي ولد محمد فال، الذي أثبتت جنازته والحشود التي قَصَدَتها والبرقيات الخارجية التي بُعِثَت على أثيرها مدى احترام الآلاف له، نخبة وعواماً في الداخل والخارج. قبل الـ3 من أغسطس/ آب 2005 لم يكن كثيرون خارج موريتانيا يعرفون العقيد إعلي. وبعد التاسع عشر من إبريل/ نيسان 2007 لم يبقَ أحدٌ إلاّ وقد عَرَفَ الرجل وفي ذلك قصة.

ففي التاريخ الأول وقع انقلاب في موريتانيا قاده إعلي ولد محمد فال الذي كان يرأس جهاز الأمن الوطني، ومعه رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية محمد ولد العزاوي ورئيس الحرس الرئاسي محمد ولد عبد العزيز. لكن فال وَعَدَ الموريتانيين والعالم بإجراء انتخابات خلال عامين فقط، وهو ما حصل حين سلَّم السلطة طواعية في 19 إبريل/ نيسان 2007 إلى رئيس منتخب وهو سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله الذي اعتُبِرَ أول رئيس يُنتَخَب ديمقراطياً في البلاد منذ العام 1960.

هو لم يَعِدْ بتسليم السلطة فقط، بل وَعَدَ كذلك بأن يبتعد عن العمل السياسي التنفيذي، وأن لا يترشّح لأيّ انتخابات خشية أن يُقال بأنه يُدوِّر السلطة «ديمقراطياً» حين يفوز فضلاً عن أنه يُثبت بأن لا ميول له في سلطة أو زعامة. لم يسبق الرئيس الراحل إعلي إلى هذا الفعل الأخلاقي الكبير سوى شخص واحد وهو المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان ولم يعقبه أحد لغاية الآن.

وعندما وقع الانقلاب الأبيض على ولد الشيخ عبد الله في الـسادس من أغسطس/ آب 2008، وقف إعلي ضدّ صديقه وقريبه القديم محمد ولد عبد العزيز غير قابلٍ بما حدث. لذلك قرّر الترشّح ليس حباً في المنصب الذي غادره طواعية بل لإبداء المعارضة لما جرى، وهو ما جعله ولغاية وفاته أحد أبرز المعارضين للحكومة منتمياً لما سُمِّي بالمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة المعارض.

أكثر من ذلك فإن الراحل قام وخلال الفترة الانتقالية (2005– 2007) بإصلاحات دستورية مهمة لتصحيح مسار الدولة حين عُدِّل الدستور، وجُعِلَت فيه مادة تنصّ على تحديد ولاية الرئيس في موريتانيا بفترة رئاسية قابلة للتجديد مرةً واحدةً فقط، بالإضافة إلى مواد وتشريعات أخرى تتعلق بالحريات السياسية والعامة ومنها الصحافة. وكان ذلك من الأعمال التي تُحسَب للراحل.

في جنازته المسجَّاة في مسجد ابن عباس في العاصمة نواكشوط والملفوفة بالعلم الوطني، وقفت كل قيادات ونخب المجتمع. كان الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز حاضراً ومعه جميع وزراء الحكومة والقيادات العسكرية والأمنية وكافة سياسيي البلاد من حاكمين ومعارضين، ومن أعيان موريتانيا ومثقفيها الذين منحهم الراحل فرصة التباهي أمام العالم بأن موريتانيا بلد عظيم.

عندما انتهت الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها ولد الشيخ عبدالله وتخلى عن سلطتها ولد فال كانت القمة العربية ستُعقَد حينها في الرياض بالتزامن مع أجواء انتخابات موريتانيا. وقد أصرَّ الرئيس المنتخَب أن يكون سلفه المتنازل عن السلطة طوعاً هو الممثل لموريتانيا في القمة. وعندما ذهَبَ الجنرال الزاهد في السلطة إلى القمة كان الصحافيون يحفّونه وكذلك الضيوف الذين أخذ بعضهم الحماس ليعانقه. فهو سوارٌ من الذهب آخر ظهر ولكن في أقصى الغرب الإفريقي.

قبيل وفات إعلي ولد محمد فال وقع جَدَل بين وزارة المالية الموريتانية والنقيب السابق للمحامين الموريتانيين أحمد سالم ولد بوحبيني الذي قال بأن الراحل وكّله كمحامٍ أمام القضاء لأخذ مستحقاته وامتيازاته كرئيس أسبق. وبعيداً عن ذلك الجدل الذي لستُ طرفاً فيه ولا يحق لي أصلاً إلاّ أن ما يهمني هو ما كان يستلمه الراحل من رواتب، إذْ كانت لا تزيد عن الـ7 آلاف و637 دولار وهو رئيس أسبق خلال الفصل الأول من العام المالي الجاري حسب بيانات وزارة المالية الموريتانية!

كان يمكن للرجل أن يغرف من أموال الدولة ما شاء ولا يخرج إلاّ بالأصفرَيْن منها لكنه لم يفعل. لقد كان قادراً على ذلك. فهو ومنذ ستينات القرن الماضي كان في الجيش الوطني مترئساً المنطقة العسكرية السادسة وعضواً في اللجنة العسكرية للخلاص الوطني التي حكمت موريتانيا منذ 12 ديسمبر/ كانون الثاني 1984، والأهم أنه كان رئيساً لجهاز الأمن والأقرب لرئيس الجمهورية، وهو ما كان يعطيه قوة ونفوذاً في الدولة لا يضاهيه فيه سوى رئيس الجمهورية.

هذه إحدى صور النزاهة أمام فتنة السلطة والمال والجاه والنفوذ، وما أصعبها من فتنة. فرحم الله الجنرال إعلي ولد محمد فال وخالص التعازي إلى عائلته الكريمة وإلى الجمهورية الإسلامية الموريتانية حكومةً وشعباً.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5364 - الأحد 14 مايو 2017م الموافق 18 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:29 ص

      لن تذهب للقبر بغير كفنك وعملك .. إما ترحم الناس عليك ودعواتهم لك وإما دعواتهم عليك
      لن تترك لورثتك سوى المال الحلال لينعموا ويسعدوا به أو المال الحرام ليشقوا ويتعسوا به.
      احذر ثم احذر ثم احذر

    • زائر 4 | 11:01 م

      فقدت الأمّة العربية هذا النوع من الشرفاء اذ لم تعد هذه التجربة تتكرّر فلا يبتعد أي رئيس عربي عن الكرسي حتى ولو طارت آلاف الرؤوس

    • زائر 3 | 10:50 م

      رحمه الله . .. بالفعل نشعر بالشفقه على من لم يفعل ما قاما به السِواران .. سِوار السودان و سِوار موريتانيا ..نتمن ان نرى سِواراً ثالثا بين امتنا

اقرأ ايضاً