العدد 5382 - الخميس 01 يونيو 2017م الموافق 06 رمضان 1438هـ

محطات الذاكرة... الدروس والعبر

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

البساطة والطيبة مقوّم في صناعة الإنجاز، بيد أنها مصدر للإحباط وخيبة الأمل في آن واحد، وعلى رغم أن الإنسان يدرك تلك الحقيقة، ويكتشف ذلك ضمن مسارات حياته ونشاطه وعلاقاته الاجتماعية، وممارساته في حقول العمل المهني والمدني، لا يمكنه أن يتجاوز حدود السلوك الذي تربى عليه، ونهل مقوماته الأخلاقية وقيم مسئولياته من مصادر تربيته الأسرية، التي تصير مع مرور الزمن جزءاً من حياته وتفكيره وسلوكه التربوي، والفرد على رغم تحصنه بقيم التوجيهات الأسرية، وما تَزوده من قيم ومبادئ الحكمة الممزوجة بالتعاليم الدينية والروحية من والديه، تبقى المنعطفات الصعبة والضربات الموجعة من أقرب الناس، ومن قدم إليهم خدمات جليلة، ومن اشترك معهم في بناء مشاريع العمل المدني، وتوافق معهم وترفع في إطار علاقته عن تجاوزاتهم الشخصية وغير الشخصية، ومن أعجب بحسن معاملتهم، ووضعهم قدوةً ومحفزاً في تعزيز إخلاصه في العمل والإنجاز، ويفاجؤه بموقف يرتعش بفعله البدن والتفكير والموقف، من الطبيعي يكون ذلك مصدراً للإحباط وخيبة للأمل والانكفاء على الذات.

المكاشفة والصدق في قول الحقيقة، مدخل يريح النفس ويسمو بالقيم الروحية وثقافة التسامح، ويعزز المسئولية الأخلاقية للفرد في البناء السليم لممارساته وعلاقاته المجتمعية، وإذ نعيش الأجواء الرمضانية بما يحيط بها من قيم متداخلة المعاني والأبعاد الأخلاقية والإنسانية، وفي مقدمة أولوياتها، التسامح ونبذ الكراهية، وعدم إيذاء الغير، والتمسك بالأخلاق الحميدة، تلك العناوين ومضامين أبعادها الأخلاقية والتربوية، تمثل الثقافة القيمية للشهر الفضيل، الشهر الذي ينبغي أن تكون أيامه، مدخلاً للتفكر والتفكير المتعمق في مسارات حياتنا، وفي تشخيص محطاتها المتداخلة في وقائعها، للاستفادة من محصلة دروسها في تعديل واقع حياتنا، وتغيير مفاهيمنا في العلاقة مع الآخر، وتبني قيم السلوك الأخلاقي في علاقاتنا الاجتماعية، وجعل ما ننهله من مميزات الصفات، أن تكون قيمة ومنهجاً دائماً في ثقافتنا التربوية، وسلوكنا وممارساتنا، وفي تعاملنا مع الآخر، وأن تكون قيمة تربوية تعزز قيم المسئولية الأخلاقية في بنائنا التربوي.

التوقف عند محطات الذاكرة يدخلك في سلسلة متداخلة من الوقائع والحوادث المختلفة في طبيعة وقائعها ومساراتها، كما يدخلك أيضاً في مسار المراجعة، والاستفادة من استعادة وقائع تلك المحطات في تبين الدروس والعبر الحياتية، وعلى رغم ما يمكن أن يتسببه التمعن في شريط الذكريات من ألم، تبقى الحياة بحلوها ومرها معادلة يمكن الاستفاد من مخرجاتها في بناء الذات، وتظل تحملنا تلك الذكريات إلى عوالم مختلفة الدروس والعبر، تذكرنا بالحِكم التي نهلناها من آبائنا، والمرحوم والدنا مثل من الأمثال الكثيرة التي يزخر بها مجتمعنا، ويمكن استعادة مواقفه في ثقافة البناء التربوي التي تمثل ظاهرة في الموروث التربوي لمجتمعنا في بناء القيم الرصينة للأجيال، إذ كان يردد علينا جملة لا يمكن نسيانها (لا تكره، لا تحقد، وقدم المساعدة إلى من أساء إليك، واتقي شر من أحسنت إليه، ومهما تصيبك من مصيبة لا تيأس من رحمة الله).

المسار التاريخي لمحطات حياتنا ذكريات زودتنا بالدروس والعبر، وصنعت شخصيتنا، وبنت في مكوننا الشخصي المسئولية الأخلاقية، والمنهج المسئول في معالجة المعضلات، والحرص في تجاوز مطباتها وآثارها بمستوى عال من الحكمة والوعي، والحياة الطلابية مرحلة تشعبت في مسارها علاقاتنا الاجتماعية، والتعرف عن قرب على خصال شعوب العالم وطباعها وثقافاتها المتميزة والمتنوعة، وبنينا علاقات متميزة مع زملاء الدراسة الذين كنا بالنسبة لعوائلهم بمثابة الإبن، وكانوا عوناً لنا في الظروف الصعبة مثل عائلة صديقنا الأوكراني (إيجور نيتوفكن) وعائلة صديقنا السوري (تميم حميد مرعي) الذي تنحدر عائلته من مدينة البوكمال، ومن أسرة عريقة في تاريخها الوطني، وكذلك العلاقات المتميزة مع جارنا في السكن الجامعي محمد الصفدي إبن مدينة السويداء السورية، الذي ندين له بالعرفان لما قدم لنا من مساعدة في إنقاذ حياتنا في صبيحة ذلك اليوم المشئوم عندما كنا متوجهين لتقديم امتحان مادة التخصص في التحضير لنيل شهادة الدكتوراه في القانون البيئي.

الظروف الحياتية جعلتنا نحط رحالنا في دولة الإمارات، وتوجهنا من العاصمة الأوكرانية كييف إلى الشارقة، واستضافنا المرحوم جمال عمران، على رغم وضعه المادي البسيط قدم لنا جل المساعدة، هنا بدأت مرحلة جديدة في حياتنا وشعرنا بدفء العلاقة التي أحاطنا بها عدد من أبناء الإمارت، وبدأنا للمرة الأولى نشاطنا في العمل المدني البيئي، وبعد أن التحقنا بجمعية أصدقاء البيئة في الإمارات، بنينا علاقة متينة مع عدد من أبنائها، وللعلاقة الحميمية التي ربطتنا بأحد أبنائها، كان يشير إلى ثقافة العلاقة التي كنا نتميز بها في علاقتنا، وطلب منا أن لا نعامل كل من نصادفه بذات المستوى، وبينّا له بأنّ الطيبة، السلوك والثقافة التربوية التي غرست طبائعها في وجداننا ويصعب علينا التراجع عنها، إذ إنها مزروعة في مكوننا الأخلاقي، وقال ذلك أمر طيب؛ لكن أجزم إنك ستجني من ورائها المشاكل، ولم يخطئ حدس صاحبنا، إذ أن من قدمنا إليهم خدماتنا الجليلة، وكنا لهم عوناً في بنائهم المهني والارتقاء الوظيفي، هم من كافأنا بمثل ما كوفئ سنمار.

النشاط البيئي استحوذ على كامل حياتنا في الإمارات، وبدأت محطاته الأولى بالعلاقة الأخوية التي بنيناها مع الشيخ عبدالعزيز بن علي بن راشد النعيمي المعروف بالشيخ الأخضر الذي يتميز بدماثة خلقه وحبّه للعمل التطوعي، وكان المشروع الأول الذي عملنا معاً في تنظيمه وحظي بالاهتمام الاجتماعي والوطني، دورة تأهيل الكادر البيئي لطلبة المدارس في صيف 1997، والمؤتمر الإقليمي بشأن البيئة البحرية برعاية حاكم الشارقة في أبريل/ نيسان العام 1998، وبالتوافق مع ذلك التوجه قدمنا جهداً ملموساً في تفعيل الحراك المدني البيئي، وشاركنا في ورش العمل المختصة، ولجان العمل التي تولت بناء الاستراتيجية الوطنية للبيئة، وساهمنا في صياغة مخرجات التوعية والتعليم البيئي في الاستراتيجية الوطنية للبيئة، وفي المرحلة الثانية التحقنا بالعمل في هيئة البيئة في الشارقة، وكان لطبيعة الاهتمام الإنساني الذي أحاطنا به حكام الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، والعلاقات الأخوية والمهنية الطيبة التي ربطتنا مع الرئيس السابق للهيئة عبدالعزيز عبدالله المدفع، والسياسة التي تميز بها والتوافق والانسجام في العمل، ساهمت في الارتقاء بالإنجاز، وفي إطار عملنا المهني عملنا بإخلاص، وقدمنا جهداً متميزاً في تنفيد مجموعة من البرامج المبتكرة في حقل التوعية البيئية، والبناء المؤسسي للهيئة، وفي إعداد الخطط الاستراتيجية، وبناء وإعداد الكوادر، وعلى رغم خروجنا من هناك تبقى ثقافة المودة تحكم ذاكرتنا وموقفنا.

البحرين قلبنا النابض والهم الذي لم يبارح مخيلتنا، وعلى رغم ارتباط نشاطنا البيئي في خارج الوطن، عندما نجد مخرجاً في دعم مشاريع بلادنا كنا لا نترك الفرصة تمر، لذلك عندما جاء فريق شبابي من جوالة المالكية في جولة بيئية إلى الإمارات، وفّرنا لهم كل ما يلزم لإنجاز مشروعهم البيئي، والتقينا على أرض الوطن في أجواء مرحلة الإصلاح التاريخية، وأسسنا مع نخبة من الشخصيات الاجتماعية جمعية البحرين للبيئة. محطات مليئة بالمواقف الطيبة والمفاجآت المخيبة للأمل، وتبقى المسئولية الوطنية المحفز في مواصلة جهدنا البيئي.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 5382 - الخميس 01 يونيو 2017م الموافق 06 رمضان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:21 ص

      ممتاز
      ممتاز يا دكتور، أتمنى ان تواصل على هذا النهج حيث يستفيد الجيل الجديد من الدروس و العبر

اقرأ ايضاً