العدد 572 - الثلثاء 30 مارس 2004م الموافق 08 صفر 1425هـ

انفجار القمة... بين إدمان الفشل وصناعة الموت!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

انفجرت القمة العربية من الداخل قبل أن تجمع الرؤساء والملوك في تونس، ولم يكن ذلك غريبا ولا مفاجئا، فكل المقدمات، بما صاحبها من خلافات وصراعات، كانت توحي بأن الفشل قادم لا محالة، في وقت لن يتسامح التاريخ مع صناع الفشل، ولا مع المتهربين من المسئولية...

ولقد وجد المتهربون من المسئولية التاريخية، فرصة العمر لممارسة مهمتهم غير المقدسة، حين تعللوا بحجج كثيرة لتفجير القمة من الداخل، أو على الأقل لتأجيلها كما حدث، من حجة الخلاف على مشروعات الإصلاح الداخلي أو الخارجي، إلى حجة أيهما أحق، الصراع مع «إسرائيل»، أم الصراع مع الديمقراطية سواء تلك الأميركية، أو الداخلية...

هنا تقدمت «إسرائيل» وأميركا فوجهتا لطمتين إلى القمة وإلى السلام وإلى الديمقراطية معا... كانت اللطمة الأولى دموية، حين اغتالت العصابة الإرهابية الحاكمة في «إسرائيل»، الزعيم الروحي لحركة حماس الفلسطينية، الشيخ المسن المقعد أحمد ياسين، في واحدة من أبشع جرائم الحرب، ففجرت ليس فقط براكين الغضب والكراهية، لكنها فجرت في الواقع براكين العنف والثأر الذي لا ينتهي...

بعد ذلك بأيام قلائل جاءت اللطمة السياسية الثانية، حين استخدمت أميركا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنعه من إصدار قرار دولي، وافقت عليه الغالبية، بإدانة «إسرائيل» لاغتيالها الشيخ ياسين...

تجمعت اللطمتان السياسية والعسكرية، وتكاملتا مع منظومة الخلافات والصراعات العربية، لتنفجر في وجه القمة العربية التي كان مقررا عقدها في تونس، فإذا بالتشابك الساخن يربك الإعداد للقمة ويربك القادة جميعا، بعد أن توزعت الاتجاهات وتشتت المواقف، ما بين فريق طالب بتأجيل القمة بسبب اللطمتين الإسرائيلية والأميركية وبسبب الخلافات بشأن ملف الإصلاح، ربما لإعادة التفكير فيما يجري، وربما تهربا من مواجهة المسئولية، وفريق آخر أصر على عقد القمة، لوضع الجميع أمام المسئولية في مواجهة اللطمات الصاعقة؛ وربما لمجرد إبراء الذمة أمام الشعوب المغتاظة الحانقة!

وبصرف النظر عن المبررات والتفسيرات التي هطلت على رؤوسنا، فإن الحقيقة الواضحة أن الإهانة لحقت بنا جميعا، فقد قتل العرب بأيديهم أحلام المبادرة بالإصلاح العربي من الداخل، وقتلوا إمكان الصمود في وجه الإصلاح المفروض من الخارج، في حين قتلت «إسرائيل» رمزا فلسطينيا بارزا وبعثت معه رسالة إرهاب وترويع للقمة، بينما تكفلت الولايات المتحدة - الصديق والحليف الأعظم - بحماية القاتل باسم مكافحة الإرهاب، ثم جلست على الناحية الأخرى من البحر تتلقى الأنباء «السارة» عن الانفجار المدوي للقمة العربية، فتهنئ «إسرائيل» بالنتائج المبهجة!

الآن... نعود إلى أصل الموضوع، إذ باسم مكافحة الإرهاب والحرب ضده تتصرف «إسرائيل» بحكومتها الإرهابية وحكامها الإرهابيين والقتلة، يتصرف العصابات وبعدوانية المرتزقة، من دون مساءلة أو محاسبة أو محاكمة، لأنها تعلم علم اليقين حقيقتين، أولاهما أن العرب عموما والفلسطينيين خصوصا، لن يستطيعوا إيقافها فعليا عن ارتكاب جرائمها، وثانيتهما أن هناك على الجانب الآخر من المحيط، من يقف وراءها يحمي ظهرها ويضمن لها حتى مجرد عدم الإدانة في قرار دولي، وليضرب العرب والعالم رؤوسهم في أقرب حائط... أليس هذا هو عصر الامبراطورية التي لا تقاوم؟!

ومن أفغانستان شرقا إلى مدريد غربا، مرورا بفلسطين والعراق، مازالت صناعة الموت تنمو وتزدهر، ومازالت أميركا القاسم المشترك الأعظم في هذه الصناعة الوحشية، ومازالت شعارات الحرب ضد الإرهاب هي المبرر الذي يجري تسويقه سياسيا وتجاريا وإعلاميا، ولايزال البعض هنا وخصوصا جماعة «المتأمركين العرب» يردد كالببغاء البليدة المبررات الأميركية والإسرائيلية، التي فقدت صدقيتها، ليس فقط أمام شعوب العالم وحكوماته النزيهة، ولكن أيضا أمام الشعب الأميركي، الذي تنبه أخيرا إلى هول الصدمة وفجيعة الكذب وفضيحة التزوير والتلفيق!

ولن نجد أفضل من شاهد من أهل البيت الأميركي يشهد بموضوعية على الكذب والتلفيق، فها هو عضو مجلس الشيوخ وشقيق الرئيس الأميركي السابق والمغتال في جريمة غامضة حتى الآن، جون كنيدي، السناتور الأميركي إدوارد كنيدي يقول في مقال نشرته صحيفة «لوس أنجليس تايمز» حديثا: «لقد شنت إدارة الرئيس بوش حربها ضد العراق قبل عام، بطريقة تفتقر إلى الأمانة، ما أفقدنا حلفاءنا الأساسيين، وأثارت موجات غضب هائلة بين الرأي العام العالمي، وفجرت على أميركا براكين إضافية من الكراهية، وجعلت النصر في الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة وأبعد منالا، لأن هذه الإدارة ادعت أن صدام حسين يمثل خطرا جسيما وعاجلا تقتضي مواجهته فورا، وأنه يمتلك - أو في سبيله لامتلاك - أسلحة دمار شامل من ناحية، وأنه يرتبط بعلاقات عضوية وثيقة بتنظيم «القاعدة» الذي يتزعمه بن لادن والظواهري، المتهم بشن الهجمات الفظيعة ضد نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 من ناحية أخرى... وها قد اتضح الآن أن الزعيمين كانا كاذبين...».

والحقيقة أن رأي إدوارد كنيدي هذا ليس شاذا ولا هو صوت فريد وحيد في البرية، يصرخ بحقيقة كشف الكذب والتزوير، لكن المجتمع الأميركي يتيقظ الآن رويدا رويدا على الحقائق المفزعة التي حجبتها سُحب التزوير السياسي على مدى السنوات الثلاث الماضية، فيما يتعلق بالحرب ضد الإرهاب، وهو تيقظ إنْ سار على الوتيرة الراهنة، فسيؤثر حتما في توجهات الناخبين وبالتالي في نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

صحيح أن هجمات سبتمبر الدامية، وغير المبررة والمدانة، قد فجرت حمامات الدم بصورة رهيبة، وسوّغت لأمراء الحرب في ترسانات الامبراطورية الأميركية التوسعية، شن حروب متعددة هنا وهناك باسم محاربة الإرهاب، لكن الصحيح الذي بدأ يطل علينا الآن، أن التقصير الأمني الأميركي من الأجهزة المخابراتية والوزارات المعنية والبيت الأبيض، كما عرفنا من تسريبات لجان الاستماع والتحقيق في الكونغرس، هو المسئول الأول عن نجاح مجموعة الإرهابيين في تحقيق أهدافهم الدموية بسهولة، بما يوحي حتى بوجود تواطؤ ما من جهة ما...

والصحيح أيضا أن جماعة «المحافظين الجدد» المتحكمين في الإدارة الأميركية الحالية، والنازعين سياسيا وعسكريا نزوعا امبراطوريا، قد وجدوا في هجمات سبتمبر فرصة جاهزة لتنفيذ برامجهم التوسعية، ولفرض الهيمنة وإحكام القبضة الأميركية الحديد على العالم من دون شريك، عبر الاستخدام الأكثر شراسة لآلة الحرب الدموية...

وهكذا استيقظ العالم وتنبهت الأمة الأميركية، على واقع جديد تحكمه صناعة الموت، ويتحكم فيه أمراء الحرب، وتختلط فيه الأهداف الغامضة بالأساليب المراوغة بالأكاذيب مع بعض الحقائق، بالتزوير مع بعض التبرير...

فعلى مدى السنوات الثلاث الأخيرة 2001 - 2004، استغلت الحرب الأميركية في أفغانستان باسم مكافحة الإرهاب، واصطياد رؤوس «القاعدة»، بن لادن والظواهري والملا عمر، والقضاء نهائيا على كل ما له علاقة بـ «طالبان» و«القاعدة»... والنتيجة الواضحة الآن أن الحرب مازالت دائرة بين أقوى قوة عسكرية حديثة في العالم، وبين فلول المقاتلين الهائمين في الجبال الأفغانية، إذ يموت «شباب أميركا» في بلاد مجهولة!

ومضى عام كذلك على الحرب غير المبررة (كما وصفها إدوارد كنيدي) ضد العراق، إذ سقط نظام صدام حسين وتم أسره، واحتلت القوات الأميركية كل العراق، لكنها فشلت فشلا ذريعا حتى اللحظة، سواء في إثبات مبرر حربها بالعثور على أسلحة دمار شامل، أو في إحكام سيطرتها وفرض الأمن الذي تريده، وحماية شبابها من الموت... إذ مازالت صناعة الموت تزدهر هناك بل تتصاعد يوميا، فطالما هناك احتلال أجنبي، هناك مقاومة، طبقا للقاعدة الذهبية التي أبدعها التاريخ الإنساني...

أما في فلسطين فصناعة الموت هي الأعلى والأعنف، ففي ظل ما روّجته أميركا عن الحرب العالمية على الإرهاب، سارت «إسرائيل» الإرهابية على النهج نفسه «حذو النعل بالنعل» من قتل واغتيال وتدمير وحرق وإبادة وجرائم تدخل كلها تحت تصنيف جرائم الحرب ضد الإنسانية، وفتحت العصابة الحاكمة كل أبواب جهنم أمام العنف الذي تمارسه ضد شعب يقاوم طلبا للحرية والاستقلال والكرامة، ومارست الأكاذيب واختلاق الذرائع وترويج المبررات الكاذبة، كما فعلت الإدارة الأميركية، بأنها تخوض حربا موازية ضد الإرهاب الفلسطيني، رديفا للحرب الأميركية ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق، ثم تطالب أصدقاءها بتبرير القتل والإبادة، وصولا إلى مساواة القاتل بالقتيل!

وعلى خلفية صناعة الموت هذه، باسم الحرب على الإرهاب، وقعت الجريمة الإرهابية الأخيرة في العاصمة الإسبانية مدريد، والتي أودت بحياة المئات وجرحت الآلاف، ومثلما لا نستطيع أن نقبل التسويغ والتبرير الأميركي والإسرائيلي، في شن الحرب وممارسة صناعة الموت، خارج حدود المسئولية القانونية والسياسية والأخلاقية، فإننا لا يمكن أن نقبل التسويغ والمبرر المضاد، الذي ادعى أن تفجيرات مدريد «ضد المذنبين الأبرياء» جاءت ردا على العدوان الأميركي الإسرائيلي...

كلا المبررين غارق في الخطأ والخطيئة، كلاهما يمارس الحرب وصناعة الموت، لأسباب ومبررات ملفقة، وتحت دعاوى كاذبة وحجج مزورة، إنْ ارتضاها المتورطون فيها لأنفسهم، فهي لا ترضي ضميرا حيا ولا تقنع عقلا واعيا ولا نفسا إنسانية سمحة...

والحاصل أن استباحة الدولة العظمى لسيادة الدول، وإهدارها للقانون والشرعية الدولية، واختراعها للمبررات الكاذبة والحجج غير الأخلاقية، لممارسة صناعة الموت، قد ورّطها في مأزق سياسي قانوني أخلاقي تاريخي رهيب، وخصوصا حين شجعت الآخرين على محاكاتها من ناحية أو مقاومتها بالسلاح نفسه من ناحية أخرى... وحين صنعت من «إرهاب الدولة» الذي تمارسه «إسرائيل» دفاعا عن النفس، بينما صنفت المقاومة الوطنية في خانة الإرهاب، فإنها قد بالغت في السقوط، بل في استنساخ العنف...

ومازالت الدائرة الجهنمية الدموية تلتف حول الأعناق في كل مكان، فالقادم هو الأكثر دموية؛ وخصوصا حين تتآكل إرادة أصحاب الشأن «العرب» فيشلها الاختراق الرهيب، سواء الاختراق الأجنبي، أو الاختراق الداخلي... أي الوهن والعجز حتى عن مجرد الاجتماع واللقاء!

فهل كانت تلك هي فرصة القمة الأخيرة؟

خير الكلام - يقول ابن الجوزي:

يرومُ حسودي أنْ يرى ليَ زَلّة

إذا ما رأى الزلات جاءت أكاذيبُ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 572 - الثلثاء 30 مارس 2004م الموافق 08 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً