العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ

هجمات مدريد... ضرورة مكافحة «الإرهاب الأعمى»

طراد حمادة comments [at] alwasatnews.com

من الصفات اللصيقة للإرهاب أنه عنف أعمى. لا يستخدم حاسّة البصر فيخبط خبط عشواء. ومن فقد حِسّا فقد عِلما يقول أرسطو. والإرهاب ليس عنفا أعمى فاقد الحواس وحسب، بل عنف مجنون لا يستخدم العقل، كقوة إدراك أخرى تميز الصواب عن الخطأ، وتكبح قوى النفس الشريرة، من الانسياق وراء القوى السبعيّة والشهوانيّة. ولذلك قلَّ ما عرفنا للإرهاب أهدافا سياسيّة واضحة. لا يُفصح الإرهابيّون عن أهدافهم السياسيّة، لأنّه ليس في جعبتهم من السياسة شيئا غير الإرهاب الذي يصبح غاية ووسيلة في آنٍ واحد.

وإذا كان الإرهاب أعمى وبلا عقل، فهو معرّض للاختراق والاستغلال، ويصب حصيلته في طاحونة سياساتٍ أخرى ولذلك يكون متعدّد الأضرار، لا تخلو جهة من الجهات من أذى الإرهاب حتى لو وظّفته في بعض المواقع لخدمتها، إنه قطعيّ الضرر، لا فائدة منه ولا مستقبل له، ولا تفضي أعماله في القتل إلاّ بزهق الأرواح، وتدمير المصالح، وتخريب السياسات، وإعاقة التعارف والتعاون، وإشعال الفتن.

والإرهاب مثل الشرّ، له ناحية من الوجود تلاصق العدم، وتتطابق على تغيّر منظوماته ومجالات عمله. ولذلك يتشكّل الإرهاب كمنظومة عالميّة، متشعّبة الفروع موحّدة الأصول. أصول الإرهاب واحدة، وفروعه متشعّبة، وهو الموت الذي يصنعه - سواء كان طبيعيّا أو سياسيّا - واحد على تعدّد أسبابه. ولا يتعب الناظر نفسه في البحث عن الأهداف السياسيّة للإرهاب، لأنّ سياسته عين هويته... ولأنّه على هذه الحال، فإنّ أضراره كما ذكرنا، أكثر من أن تحصى.

كيف نطبّق هذه الوصفة للإرهاب، على العمليات الإجراميّة لشبكته العالميّة المعقّدة، ضد إسبانيا؟

بصرف النظر عن الشبكة الإرهابيّة العالميّة الّتي نفّذت هذه العمليات وعما حصل من ردود فعل إسبانيّة داخلية عليها في الانتخابات العامّة، باعتبارها حصلت لحسابات داخلية صرفه وفي اعتبار أن واحدة من الشبكات المنفّذة للاعتداءات تتصل بنواة الإرهاب في العالم العربيّ والإسلاميّ، فإنّ مخاطر ما حصل، تبدو على المدى البعيد كبيرة الضرر على العرب والمسّلمين الذين يمكن اعتبارهم إلى جانب الأرواح البريئة من المواطنين الإسبان الضحية الأساسية لها وذلك وفق نظرة عامّة، لطبيعة العلاقات الراهنة بين اسبانيا وأوروبا من ناحية وبين العالم العربيّ والإسلاميّ، وكذلك لمصلحة الطرفين، مع أطراف دوليّة أخرى، في مكافحة هذه الآفّة الدوليّة الضارّة وشديدة الخطورة.

تقول مصادر سياسيّة وإعلاميّة وثيقة الإطّلاع على ما توصّلت إليه العلاقات بين أوروبا والعالم العربيّ والإسلاميّ، إنّ نتائج العمليّات الإرهابيّة الأخيرة في إسبانيا تؤدي إلى تحويل نظريّة صراع الحضارات لواقع وتساهم في تعميق الشرخ بين الشعوب العربيّة والإسلاميّة والشعوب الأوروبيّة على رغم التغيّرات الإيجابيّة لدى الأوروبييّن من القضيّة الفلسطينيّة ومن استمرار الاحتلال الأميركي للعراق.

وذلك لأنّ ضربة الإرهاب في إسبانيا موجّهة بالدّرجة الأساسيّة إلى أوروبا باعتبار إسبانيا بوابة أوروبا ولذلك ينظر إليها الأوروبيّون كضربة مباشرة على خط الدفاع الأوّل عن القارّة وهي إذا ما بقيت من دون ردّ مناسب مرشّحة للتطوّر إلى الداخل الأوروبي نفسه. ولذلك فقد ظهر في القمة الفورية بين الرئيس الفرنسي شيراك والمستشار الألماني شرودر، استشعار خطر الضربة على الأمن الأوروبي الأمر الذي يستلزم رسم استراتيجية جديدة وموحدة للقارّة الأوروبيّة في مواجهة الإرهاب.

أدت عمليّة مدريد الإرهابيّة إلى تشجيع تيارات الرّبط بين الجاليات العربيّة والإسلاميّة في أوروبا وبين الإرهاب العالمي وهذه خدمة ما بعدها خدمة لتلك التيّارات المعادية للحركة السياسيّة السلميّة والمعتدلة لهذه الجاليات المتعايشة بسلام وتفاهم داخل المجتمعات الأوروبيّة، والأمر الذي يلزم الالتفات إليه أنّ الجاليات العربيّة والإسلاميّة، والأوروبيين من أصول عربيّة وإسلاميّة باتوا قوة يُحسب لها حساب على المستوى الداخلي الأوروبي وحركتهم تؤثّر في السياسات الداخليّة والخارجيّة لمجتمعاتها. إنّ في فرنسا على سبيل المثال جالية ناهضة وفاعلة وأصبحت قوّة انتخابيّة مؤثّرة تحاول كل الأحزاب الفرنسيّة استمالتها وإقامة العلاقات الوطنيّة والسياسيّة معها ومن أجل ذلك قد تدخل هذه الأحزاب تعديلات مهمة على برامجها السياسيّة لكسب الصوت العربي خصوصا في القضايا المتعلّقة بالمنطقة العربيّة والإسلاميّة وفي مقدمتها قضيّة فلسطين والعراق. إن العمليّة الإرهابيّة في مدريد، تؤدي على المدى البعيد إلى تهميش دور هذه الجاليات وقسم كبير منها إسلاميّ معتدل والى تشجيع النظرة المعادية لها في اعتبارها طابورا خامسا وخزّانا استراتيجيا للمنظمات الإرهابيّة المسماة إسلاميّة. لقد أدت هذه الجاليات في العقود الثلاثة الماضية دورا مهما في الحركة التضامنيّة مع القضيّة الفلسطينيّة وحقوق الشعب الفلسطيني وفعاليات الانتفاضة، وكذلك وقفت ضدّ الاحتلال الأميركي للعراق، وكان لهذه الحركات التضامنية أثرها الواضح، الذي ظهر في استطلاع شهير للرأي العام الأوروبي أظهر أن ثمة أكثر من 53 في المئة من الأوروبيين يستشعرون الخطر الإسرائيلي على السّلام العالميّ.

بعد نتائج هذا الاستطلاع قرّرت الأوساط الصهيونيّة شنّ حملات إعلاميّة مركّزة مفادها كسب الرّأي العام الأوروبيّ مجدّدا وكان محور هذه الحملات اعتبار «إسرائيل» خطّ الدفاع الأوّل لمواجهة «الإرهاب الإسلاميّ» وكان المحور الثّاني لهذه الحملات الإعلاميّة الصهيونيّة هو التركيز على أن الجاليات العربيّة والإسلاميّة عدو داخلي مرتبط «بالإرهاب الدوليّ». لقد فشلت الحملات الإعلاميّة المعادية أمام موجة التضامن مع القضايا العربيّة والإسلاميّة خصوصا في فلسطين والعراق وتوجهت الأنظار إلى الإرهاب الصهيونيّ من خلال ممارسات قوات الاحتلال في فلسطين كجرائم حرب مشهودة وعمليّات إبادة جماعيّة، وكان من الصعب على الرأيّ العام الأوروبيّ قبول هذه الأعمال، لكن وضعها في نطاق حرب عالميّة على الإرهاب في ما يشبه المواجهة الكبرى بين الإسلام والغرب هو الأسلوب الإعلاميّ المتّبع لإعادة كسب الرأيّ العام الأوروبيّ مجددا وهذا الأسلوب تقدم له عمليات مدريد الإرهابيّة خدمات لا تحصى، بل لعلها تقدم مبررات غير مباشرة للممارسات الإرهابيّة الإسرائيليّة في اعتبارها نوعا من أعمال الحرب في مواجهة كبرى مع الإرهاب الدوليّ. وهي تقول للأوروبيّين ما مفاده: لقد وقفتم ضدّ الحرب على العراق وضدّ ممارسات القوات الإسرائيليّة في فلسطين فوجدتم أنفّسكم أمام الإرهاب وما عليكم إلاّ إعادة رسم سياساتكم من جديد.

لن يجد الصوت الصهيوني أذنا صاغية عند العقل الأوروبيّ ممثّلا بتكتّلات الرأيّ العام، لكن سيجد وقعه عند صانعيّ القرار السياسيّ، وهذا الأمر يلزمه موقف عربيّ وإسلاميّ صريح مفاده إدانة الإرهاب واعتبار ما حصل إرهابا بلا عقل ولا دين ولا أخلاق، إرهاب ما فوق الإرهاب، لا أهداف سياسيّة له إلاّ القتل، وان العرب والمسلمين أولى ضحاياه، كما حصل في كربلاء والكاظمية وكوتيا، وكذلك في مدريد، وأنه آن الأوان لإعلان البراءة المعرفيّة والفقهيّة والسياسيّة من منظمات القتل والجريمة الّتي تجاوزت كل حدود للعقل والدين والأخلاق، وأضحت صورة للشرّ ووباء عالميّا راهنا لا علاقة له بالإسلام والمسلمين، كدين ومجتمع ودول وأنظمة حكم، إنّه خارج كل تصنيف وكل هويّة اجتماعيّة أو سياسيّة دينيّة أو حضاريّة. إنه الشرّ وصورته عدميّة، وضرره يفرض مشاركة عالميّة واسعة في مكافحته

العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً