العدد 584 - الأحد 11 أبريل 2004م الموافق 20 صفر 1425هـ

العراق... كتابة هادئة في مشهد مضطرب

طراد حمادة comments [at] alwasatnews.com

هل تمكن كتابة هادئة في مشهدٍ مضطرب؟ الأمر في غاية الصعوبة إذا كان المشهد ينقل ما ينقل من صور الضحايا من المدنيين الأبرياء، وفظاعة عمليات القتل الجماعي، للتظاهرات الشعبية السلميّة في المدن والقرى التي تحاصرها قوات الاحتلال وتغزوها لترتد عنها ثم تغزوها من جديد، وكأنما دارت الحرب دورتها وعادت، ليست كحرب نظامية على سلطة حاكمة، ولا كحرب تتعقب مجموعات مقاومة سرية بل حرب من نوع آخر، تستهدف الشعب بكامله، من دون تمييز ولا استثناء ولا قواعد أو منطق ونظام. حرب ضدّ الشعب العراقي، تجد صورتها المثلى في حرب الاحتلال الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني، وهنا وهناك، يقتل الناس في الشوارع والمنازل وتدمّر المصالح، وتنتشر فوضى القتل والقنص بالطائرات والمدافع وتغيب عن ساحة هذه الحرب المتجددة السياسة حتى تبدو كأنما قدر مكتوب.

لقد عرف العالم أنماطا من الحروب الاستعمارية ولكنه لم يشهد هذه الشهية لقتل شعب كامل ينتفض من أجل حريته واستقلاله إلا في منظومة مخططات أصحاب القرار في واشنطن وتل أبيب. وهل يوجد وصف يليق بعمليات القتل المنظمة سوى إرهاب الدولة الرسمي؟ الاحتلال والإرهاب الرسمي في هذه الحلقة، صورتان متماهيتان.

كتابة هادئة في مشهدٍ مضطرب... كيف؟

إذا كانت الصحافة فن تأريخ اللحظة كما يقول ألبير كامو، فإن متابعة المشهد العراقي تستوجب حساب اللحظات البطيئة، بل اللحظات القاتلة، للوصول إلى استحقاقين:

1- نقل السلطة إلى العراقيين في يونيو/ حزيران المقبل.

2- استحقاق انتخابات الرئاسة الأميركية في خريف العام الجاري.

وحتى موعد هذين الاستحقاقين سيكون على الإعلام العالمي، أن يتابع مشاهد القتل في حرب الاحتلال، من فلسطين إلى العراق، هذا إذا لم تتدحرج كرة الحرب، لتخرج عن مسارها، وتطال من تشاء من الدول المجاورة للعراق وفلسطين، أو الدول البعيدة عنهما.

في هذه اللحظات الكثيفة، من زمن حرب الاحتلال، سترتد السياسة كفعل إلى الوراء، ستأخذ إجازة قسرية وتكتفي بدور تقديم الغطاء اللازم لأعمال الحرب، باعتبارها مقيّدة الاهتمام بتحقيق أهدافٍ مرسومة، غايتها تأمين فوز الرئيس الأميركي جورج بوش في الانتخابات، ونقل السلطة إلى العراقيين وفق روزنامة سلطات الاحتلال، بصرف النظر عن مراكز وقوى الاحتجاج العراقي بشأن عملية اختيار النظام الجديد في آلياته الدستورية التي اختارها الشعب العراقي وقواه الحيّة، فيما رفضتها قوى الاحتلال أو وضعتها في صندوق الانتظار.

في النظرة المتأنية إلى الحوادث الجارية في العراق، تتضح الصورة في وجهها المسيطر من ناحية اختيار الاحتلال الأميركي جانب إعلان الحرب من جديد على شعب العراق، وتدمير قواه الحيّة، بعد صم الآذان عن مطالب هذا الشعب في الحريّة والاستقلال والانتخابات وجملة المطالب السياسية الأخرى، بمعنى إسكات صوت الشعب بالقوة، والنطق باسمه، لتوظيف صوت الناطق المحتل في معركة بوش الانتخابية فيما اختار الشعب العراقي، المطالبة بحقوقه الوطنيّة، بالتظاهرات الشعبية السلميّة التي وصلت حدّ الانتفاضة الشعبيّة العامة. ويعتبر هذا الأسلوب السياسي حقا مشروعا، وممارسة حضاريّة، ومقاومة سلميّة، وفعلا سياسيا حقق نتائجه الإيجابية، في أكثر من واقعة تاريخية سابقة، لكن هذا الفعل السياسي المشروع، والممارسة الحضارية للسياسة، لا تجد لدى إرهاب الاحتلال، الطرف المحاور بل المحارب، وبين حق الحوار وباطل الحرب، تتأرجح اللحظة السياسيّة الراهنة في المشهد العراقي.

ليست انتفاضة الشعب العراقي الراهنة حركة مجموعة من المتشددين الخارجين على القانون، كما يصفها خصومها، وليست حركة معارضة سياسيّة يرغب أصحابها المشاركة في السلطة القادمة، وحسب، وليست التحاقا بأعمال عسكرية متفرقة لمجموعات مقاومة سريّة، وكذلك لا تكشف عن تنافس مضمر على تقاسم السلطة والنفوذ عند المسلمين الشيعة في العراق، وكذلك يصعب اعتبارها خروجا، في لحظة حرجة، عن إجماع المسلمين الشيعة العراقيين حول مرجعيتهم السياسيّة والدينيّة. وإضافة إلى ذلك كله، لا تملك هذه الانتفاضة الشعبيّة قوّة عسكرية نظامية، كما تروّج وسائل الإعلام بالحديث عن مواجهات بين جيش الاحتلال الأميركي «وجيش الإمام المهدي». إن الأسماء في هذا الموقع تختلف دلالاتها ولسنا بحاجة إلى علم الألفاظ لاكتشاف حقائق المعنى. بل هي تبدو، وعلى حقيقتها الواقعية، حركة احتجاج سياسي، مرشحة أن تتحوّل إلى مقاومة سلميّة واسعة للاحتلال تطالب بانسحابه وتسليم شئون العراق لأهله. وهي من أجل ذلك تلقى هذا التعاطف الشعبي الواسع، الذي يشكل مصدر قوتها؛ ويعطيها القدرة على تحقيق أهدافها لصالح الشعب العراقي على اختلاف تنوعاته.

قد يكون من الأخطاء السياسيّة الفادحة، أن يتصرف العقل السياسي للقوى المشاركة في مجلس الحكم الانتقالي كعقلٍ مستقيل؟ فهل صادر بريمر عقل العقلاء في هذا المجلس؟ وهل نوازع السلطة تخطف رجاحة العقل؟ وهل ثمة نوازع مضمرة لإضعاف قوى الشعب العراقي الحية؟

إن من مسئوليات مجلس الحكم أن يبادر إلى احتضان حركة الناس وتوظيفها في مصلحة العراق، عراق المستقبل؛ لا توظيف جهوده في مصلحة مستقبل الاحتلال.

لا أريد أن أقسو في هذا الموضع، وليست الأوضاع في العراق بحاجة إلى مزيد من صب الزيت على النار، ولا تهدف كتابة هادئة في المشهد العراقي، إلى إثارة الاختلاف.

إن العراقيين بحاجة إلى الوحدة والتآلف أكثر من أيةٍ مرحلة أخرى. ولا يمكن قتل شعب العراق مرتين، ما يحدث في هذه اللحظات، أن شعب العراق يقتل للمرة الثانية؛ هل تذكرون؟

لذلك تلزم الاستعانة بالعقل السياسي الفاعل، لا العقل السياسي المستقيل؛ لتوجيه الحوادث الجارية وجهتها الصائبة، وتلك مسئولية القوى السياسية العراقية كما هي مسئولية من يريد بالعراق خيرا، من العرب والمسلمين ومن أحرار هذا العالم.

أوقفوا القتل في العراق. أصغوا إلى صوت الشعب؛ انبذوا التفرقة، اتحدوا؛ تداولوا السلطة كما يليق بشعب يمسك بجذر الحضارة، ونشأت فيه مدارس الإسلام الكبرى. ما لا يعرفه الاحتلال الأميركي ومتعدد الجنسيات؛ أن بلاد الرافدين التي تملك من عناصر القوة المادية والمعنوية ما تملك، تكون عصية على الاحتلال. ولذلك حصل ما حصل، ليس لأن الشعب العراقي بقواه الحية كان صامتا، إلا ما ندر من أشكال القول، لمدة عام كامل بل لأن صوت العراق كان همسا يتفاعل في القرى والمدن، حتى علا همسه فصار ناطقا فيه من القول الحق والحقيقة.

تقول الأخبار إن قرار الاحتلال الأميركي يتأرجح بين خيارين: مفاوضة الحركة الشعبية الراهنة، أو سحق إنتفاضاتها، كما حصل في عهد صدّام. هل تذكرون؟ فهل يختار الاحتلال ما اختاره النظام الاستبدادي السابق؟وعندها ما المعنى من كل خطابات إدارة بوش عن الحرية والديمقراطية. هل نصّدق؟ هل تصدق الديمقراطية الغربيّة، وحملة لواء الحريّة وحق الشعوب في تقرير مصيرها ما يحدث؟ وهل صارت آلية الإرهاب الرسمي الصهيوني، قاعدة خاصة يجري تعميمها لتكون صورة عن الشرق الأوسط الموعود؟ وهل حركات الشعوب المطالبة بالحرية والاستقلال والسيادة إرهابا سريا؟ ومن يكون ذلك القائد العاقل الذي يبرر الحرب ضدّ الناس، كل الناس، في مدنهم وقراهم، ومنازلهم ومساجدهم، يدافعون عن النفس والنسل والمال والعقل، وهي الضرورات الإنسانية التي أثبتها أبوإسحاق الشاطبي في مقاصده وكل ذلك من أجل أن يعود بوش مرة ثانية إلى البيت الأبيض. هل صار العقل الأميركي عقلا مستقيلا؟

قد لا يعني الشعب العراقي أن يعود الرئيس بوش إلى البيت الأبيض أو لا يعود، لكن ما يعنيه أن يعود العراق إلى السيادة والاستقلال والحريّة، ويعود العراق لكل العراقيين، فهل يدرك ذلك جهابذة إدارة الحملة الانتخابية الأميركية وحتى موعد الاستحقاقين في نقل السلطة، والانتخابات الرئاسية الأميركية، سيقاس زمن العراق باللحظات، و«اللحظة تاريخ» على ما كتب صاحب رواية «الطاعون»

العدد 584 - الأحد 11 أبريل 2004م الموافق 20 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً