العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ

من غوانتنامو إلى أبو غريب: السريالية في أوج دعابتها

هل يفك شعر الحلاج ألغاز دالي؟

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

«كان كل منا يظنّ نفسه مكانَ اضطرابٍ من نوعٍ خاصّ، وكان يصارع ضدّ هذا الاضطراب. لكن، سرعان ما كانت تنجلي طبيعته. كان كل شيء يحدث كما لو أَنّ الفكر، وقد بلغ هذه النُّقطة من اللاّشعور، فقد القدرة على التوجّه. كانت تحل محله صور متجسدة، تصبح فيما بعد مادّة واقعية. وكانت تكتسي صفات الهذيان المرئي، المسموع، الملموس. كنا نشعر بقوة الصور كلها. وكنا بدأنا نفقد القدرة على التحكم بها. كنا قد أصبحنا مجالها، ووسيلتَها. في السرير لحظة النوم، في الشارع، بأعينٍ مفتوحة، وبأجهزة الرعب كلها، كنا نمد أيدينا للأشباح»، (أرغون).

قيل لنا إن العرب يتفننون في تعذيب ضحاياهم أو بمفردة أوضح وأصح سجناءهم، وأكبر مثال على ذلك دور الرئيس المخلوع المعتقل الآن تحت مسمى مبهم «أسير حرب» في تعذيب سجنائه في السجون التي أنشأها لذلك، وأشهرها على الإطلاق «سجن أبو غريب»، غير أن الحقيقة غير ذلك تماما كما أظهرت لنا الصور التي بثتها وسائل الإعلام عن طرق تعذيب السجناء وفنونه التي تتبعها الولايات المتحدة، ولنكن أكثر تحديدا «جنودها» القادمون إلى تحقيق الديمقراطية في سجن الرئيس المعتقل الرئيسي «ابوغريب» إذ أجساد السجناء وهم عراة إلا من ورقة التوت التي تغطي رؤوسهم ووجوههم المتمثلة في اكياس من الخيش سوداء أو هي أشبه إلى ذلك وتظهر خضراء داكنة.

ولا يمكن لدارس التاريخ على الاطلاق إلا أن يعود بتلك الصور إلى المرحلة الرومانية إذ يفعل ما يشبه ذلك في سجون الرومان، وهي وبكل تأكيد صورة من الصور التي تعود أيضا في فكرتها إلى الفنان الاسباني «دالي» وقد يكون ذلك، بحق، جاء من جراء اثر انسحاب القوات الإسبانية من أرض المقابر الجماعية والسجون السريالية، غير أن علينا الانتباه ان الفكر السريالي في أصله يعود إلى الفكرة «العبثية» وليس «البعثية»، وقد تكون هي المفردة للمصاب بداء الدسكلسكيا، المرض الذي يصيب البصر. نقول إن فكرة السريالية هي من صلب الفكرة العبثية التي انطلقت بعد الحرب العالمية، وعليه فإن الولايات المتحدة لربما أصابتها عدوى العبث الفكري لكي يطول العبث بالإنسان. هذا العبث يظهر بصورته الجلية في سجن غوانتنامو بوصفه رمزا من رموز «التورجر» الحقيقي، وإذ يردد قاطنوه:

«أستسلم للهدوء حتى الانعدام،

يذوب ضجيج الصراع في الموت، كما تذوب الأنهار في البحر،

وكما يذوب تلألؤ النجوم في الليل،

تكتمل قوة الصراع في توقّف كل عمل

أَدخلُ في الهدوء كأنني أدخلُ في مجهولٍ غامض،

أَسقطُ في هذا المجهول الغامض

أُصبح أنا نفسي هذا المجهول الغامض»، (جورج باتاي).

نعرف أن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن سارع إلى «الاستنكار»، وان هذا التسارع حقيقة لن يدعم «مشروعه الاصلاحي في العراق أو أي مكان في العالم»، وان حديثه جاء «سرياليا» تماما كما كان وقوفه على أنقاض «برجي التجارة العالمي» في مدينة نيويورك «سرياليا»، مع ذالك الرجل السمين جدا جدا الذي لو مال يمنة لأصيب الرئيس إصابة بليغة، ولم يدعم ما جاء لشأنه هناك على تلك الانقاض. وهو أيضا موقفٌ «سريالي» جدا حين يستقبل رؤساء الدول على طريق رملي في مزرعته «التكساسية»، وكما هو موقفٌ «سريالي» حمله (الديك الرومي) في العراق بين جنوده والذي قيل حينها عنه إنه لم يذق «شريحة» واحدة منه، بل استعاض عنه بـ «الهش بيتيتو والغريفي» (نرجو وضع ثلاث نقط على الفاء من أجل اللفظ الصحيح أو لفظها بالحرف اللاتيني V).

تقول الأدبيات السوريالية «إن الدعابة، تعبيرا عن الثورة، هي موقف أخلاقي» كما لاحظ ذلك ماركو ريستيتش في مقال أصدره في «الثورة السوريالية»، إذ قال: «إن الإحساس بالعبثية ولا واقع كل شيء، هو الإحساس باللاجدوى الشخصية والشعور أن الفرد نفسه غير مجد» وعليه يجب «إما الاضمحلال أو التغير، أو تجاوز الذات في سلبية جوهرية». هذا ما نعتقد انه اصاب الجنود الموكل إليهم حراسة السجناء هناك في سجن «ابوغريب» وسجن «غوانتنامو»، إذ «تجاوز الذات في سلبية جوهرية» وإذ الشعور «باللاجدوى» وإذ «ان الفرد نفسه غير مجد»، وإذ «العبثية» وإذ الهدف «الاضمحلال أو التغير».

نشرت صحيفة «الوسط» في عددها الصادر يوم الأحد الموافق الثاني من مايو/أيار صورا لبعض سجناء غوانتنامو بكامل لباسهم غير المعتاد ذاك الزي البرتقالي الحار يعلو فوق أجسادهم العلم الاميركي ساكنا كسكون الصورة في صدر الصورة الفوتوغرافية، يجلس حارسا عليهم جنود أميركان أحدهم يغطي وجهه بيديه دلالة على الخجل من الفعل نفسه (هكذا فسر فرويد المواقف المشابهة). الغريب في الأمر أن المعتقلين هنا تغطي رؤوسهم خرقة سوداء وتغلف أجسادهم خرقة مشابهة لتلك التي يغلف بها البضائع ويرتدون أحذية مقيدة بسلاسل حديدية وبصف منتظم ويرقدون على ظهورهم بشكل منظم. الصورة وهي لمشهد نقل المعتقلين من موقع إلى موقع. الغريب في الأمر والذي يجعل من المشهد سرياليا هو الضوء القادم من مصادر ثلاثة: أولها ضوء الشمس، والآخر الضوء الصادر عن الاضاءة الداخلية لحاملة المعتقلين، والثالث آلة التصوير التي اختار حاملها ألا يدعها تتخطى الصف الأمامي من المشهد الكلي إذ تبقى الصورة معبرة عن قتامة الموقف برمته وضبابية الفعل ذاته. فالسريالية تؤكد أن «كل صورة، كل لحظة، تحث على إعادة النظر في الكون كله، هكذا، يصير مبدأ النفعية غريبا عن جميع الذين يمارسون هذا الشر الأعلى». فهي تصر على أنه «قبل شق طريق جديدة، يجب هدم القديمة، والضحك أفضل سلاح للتمرد على الخبث. ومن الفضل التحرر من الضغوط الاجتماعية في هزءٍ تهكمي». و«الهازئ ينسلخ عن الحياة ليراها في مقعد المتفرج»، هي بمنتهى الصراحة ما أرادت الصورة هذه البوح به. بقي خارج الصورة ذلك المشهد الذي يخرج به الرئيس الكوبي فيدل كاسترو وهو يحمل بين أنامله علامة كوبا المميزة السيجار، ولربما كان محظورا على الجندي إشعاله خوفا من إشعال المنطقة تلك.

إن سلفادور دالي، السوريالي العجيب والأكثر شهرة لا يصيبه العجب أبدا حين لا يفهم المشاهد أعماله، لكونه هو أيضا لا يفهمها لكونها ناتجة عن اللاوعي عن حال هذيان أو قل هلوسة ناتجة عن موقف أو حال غير مختبرة مسبقا، شيئا تشمئز منه النفس فلا تجد مخرجا من هكذا شعور إلا الفعل الذي تشمئز له أداة البصر والبصيرة لتصبح ظاهرة في ذاتها. ففي لوحة لدالي نجد جسدا عاريا ورأس أسد ورأس قائد جيش وحصانا وامرأة نصفها مفقود ورأس ميت، يتم تفسيرها بشكل مختلف من فرد إلى فرد. هو ذاته الموقف لدى القائمين على هذه السجون، فهم لا يعجبون أبدا من عدم فهم المراقب لأعمالهم، فهم هم ذاتهم لا يفهمون ما يقومون به لكونهم خارج اللعبة والمكان والزمان.

لربما جاء هذا الفعل المشين نتيجة اللاوعي الناتج عن وضع غير مرغوب فيه، فعليه نرى إذا محاكمة المتسبب في إقدام هؤلاء الجنود إلى القيام بهكذا عمل مشين. نرى أن رد فعلهم لهذا الواقع المر الخادع الذي جيء بهم من أجل اصلاحه دفعهم إلى رفض هذا الواقع لعدم فهمه فهما صحيحا يرتقي بهم إلى واقع إنساني أفضل. هم في حال لربما تكون صعبة على الفهم، فلذلك نرى تدخل علماء النفس لحل لغز هذا المشهد وغيره من مشاهد رأيناها في بلد «المقابر الجماعية»،وقبل ذلك بكثير بلد «الحضارات».

نترككم هنا مع أب السريالية العربية، بل جدها الأول «الحسين بن منصور الحلاج» القائل قبل لحظات من صلبه وقتله: «إنّي أُخذت وحُبست وأُحضرت وصُلبت وقُتلت وأُحرقت واحتملَت السافيات الذاريات أجزائي». لقد رأى كل شيء ببصره وبصيرته قبل حدوثه وصرخ في اللحظة الأخيرة منشئا:

أنعَي إليك نفوسا طاح شاهدُها

فيما ورا الحيثِ بل في شاهد القدَمِ

أنعي عليـك قلوبا طالما هطلَت

سحائبُ الوحي فيها أبحُـرَ الحِكَمِ

أنعي عليك لسانَ الحقّ مذ زَمَنٍ

أوْدَى وتذكارُه في الوهمِ كالعـدمِ

أنعي اليـك بيانا تستكين لـه

أقوالُ كـلّ فصيحٍ مقـوَلٍ فَهِـمِ

أنعي إليك إشاراتِ العقول معا

لم يبـقَ منهنّ إلاّ دارسُ الرِمَــمِ

أنعي وحُبِّـك أخلاقـا لطائفةٍ

كانت مطاياهمُ مـن مُكمِد الكَظَمِ

مضى الجميـعُ فلا عينٌ ولا أثرٌ

مُضيَّ عادٍ وفقـدانَ الأُلــى إرَمِ

وخلّفوا معشرا يحذون لُبسَـهمُ

أعمى من البَهْم بل أعمى من النَعَمِ

كاتب بحريني

العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً