العدد 674 - السبت 10 يوليو 2004م الموافق 22 جمادى الأولى 1425هـ

مارلون براندو... المجاز متماهيا بالحقيقة

ألم تخلف الحرب فعلا مجانين مثل العقيد والتر كيرتز؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

ثمة ممثلون يجعلونك تنسى انك تشاهد فيلما او ان ما يجري امامك هو تمثيل، بل الحياة نفسها... مارلون براندو واحد من هؤلاء إن لم يكن اهمهم.

هل لمحتم براندو يبتسم في افلامه؟ قليلة هي ابتساماته في الافلام، ربما في افلامه الاولى، لكن ذلك ليس علامة امتياز بالتأكيد، فهذا الوجه الناعم ظل يخفي وراءه مشاعر غامضة ومتداخلة. كأن وجهه قناع محكم لمشاعر تتراوح دوما ما بين السخرية والتهكم (اقرأوا تعليقاته المليئة بالتهكم ونظرته للتمثيل باعتباره مجرد وظيفة) وما بين دراما تستمتد نفسها من حياته الفعلية: طفولة غير عادية في حضن أم مدمنة على الكحول وأب عرف بأنه زير نساء.

لاحقا، سيواجه براندو حياة تماثل افلامه وافلام هوليوود نفسها: ابنه كريستيان يقتل صديق ابنته بالتبني شايان (اسمها هو اسم واحدة من اكبر قبائل الهنود الحمر في اميركا الشمالية) ويقضي كريستيان سنوات بالسجن قبل أن تقدم شايان نفسها على الانتحار.

لا فاصل بين افلامه وحياته والمجاز يتحول الى حقيقة: رفض براندو استلام جائزة الاوسكار عن دوره في فيلم «العراب» في السبعينات احتجاجا على معاملة الحكومة الاميركية للهنود الحمر. ألا يبدو انتحار «شايان» الابنة المتبناة لبراندو مجازا عن مصير قبيلة «الشايان» نفسها ومصير الهنود الحمر في اميركا الشمالية؟

تضيف الحياة لمسة رمزية اخرى للدراما عندما يموت براندو مفلسا وهو الذي كان يتقاضى اعلى الاجور في هوليوود. على هذا النحو يتداخل التمثيل باعتباره مجازا مع الواقع على نحو قدري لكأنما يصبح السرد البصري والحكاية التي يراد بها امتاع ملايين المشاهدين هو المصير الذي ينتظر الممثل، لكن أي ممثل؟

لا تكفي الطفولة البائسة أو غير العادية لكي تصنع ممثلا استثنائيا. هناك الكثير من العصاميين الآتين من احضان الفقر والبؤس يمكن الاشارة اليهم، جاك نيكلسون مثلا. هذا مذهل أو حتى تلك الاسطورة: نورما جين او باسمها الاشهر «مارلين مونرو». هذه الاخيرة وجيمس دين سيذكرون الجمهور دوما بإيقونات صنعتها هوليوود: الجمال الباهر، التهور والاندفاع نحو الحياة بلا حساب والرحيل في عز الشباب والنضارة، وفي النهاية: اسطورة باقية، حتى لو كانت مصنوعة مثل مونرو، فنهايتها المأسوية ستدفعنا دوما لوصفها بالمسكينة.

براندو مختلف تماما. حين يطل في فيلم ما، تشعر بأن حضوره ضروري، وأن هذا الحضور هو الذي يعطي الفيلم امتيازا ما بل ومعنى ما يتجاوز التسلية والمتعة البصرية وحسابات المنتجين، وربما كانت هذه الحسابات تصبح اكثر دقة عندما يتم اختيار براندو ضمن طاقم الفيلم. لم يبدأ براندو على هذا النحو، بل كان يطور هذا الحضور وهذا المعنى ويراكمه من تجربة إلى اخرى. على هذا النحو لا يتذكر الكثيرون من المشاهدين افلامه الاولى الا كفتى وسيم، أما اول الذروة فهو سلسلة افلام «العراب».

دوره في «العراب»، يبقى احد اهم اداوره الكلاسيكية، لكن براندو يبدو على الدوام فنانا يقف بالند مع صاحب الرؤية الاصلية، أعني المخرج، مخرج «العراب» عبقري آخر اسمه فرانسيس فورد كابولا. متمرد آخر من متمردي هوليوود والمجنون الاول فيها بامتياز. اداؤه هو دوما من ذلك النوع الذي يشعرك بأن هذا الرجل لا يمثل، بل يتلو علينا رؤاه بعباراته وايماءات وجهه ولغة جسده، هذا كله بعيدا عن الافتعال.

في العام نفسه أي 1972، سيقدم براندو واحدا من اهم ادواره تحت ادارة المخرج الايطالي برناردو برتلوتشي في فيلم «التانغو الاخير في باريس». لقد اثار الفيلم حفيظة الجميع وعلى رأسهم الكنيسة الكاثوليكية ولم تستطع فرنسا باحتفائها الراسخ بحرية التعبير أن تتجاوز العاصفة، فأخرت قليلا عرض الفيلم الذي صور على اراضيها، لكن الجهمور حظي اخيرا بفرصة مشاهدة ذورة اخرى من ذروات مارلون براندو.

عندما اراد برتولتشي أن يقدم فيلما عن الضياع والحياة الكئيبة المثقلة بطفولة مليئة بالكبت، اختار براندو لهذا الدور. حتى اليوم يشك الكثيرون في نجاح هذا الفيلم لولا أن براندو كان بطله. لقد ادى شخصية «بول» التائه، المحطم وهو يلتقي فتاة باريسية صغيرة ومرحة ومقبلة على الحياة (ماريا شنايدر). لا سرد كلاسيكيا في هذا الفيلم ولا سببية بسيطة مثل حبكات باقي الافلام، بل عبثية ولا منطق. الجدران والغرف عارية من الاثاث او الاكسسوارات والاضاءة المرسومة بعناية والاماكن الضيقة وزوايا التصوير ترسم لوحة لـ «بول» وهو يصارع بين ماض مثقل بالكبت وطفولة لم يعشها كباقي الاطفال وبين الامل الذي يمثله لقاؤه بفتاة شابة. لا اسماء.. يخبرها في بداية اللقاء، أقل الكلمات للحديث ولغة غير المتعارف عليها بين الناس. اما النهاية فهي ضياع ايضا: تهجره الفتاة عندما بدأ يستعيد الامل ويتعلق بها.

بدءا من سلسلة «العراب» مرورا بـ «التانغو الاخير في باريس»، يظهر براندو افضل قدراته في التمثيل، التمثيل بالجسد كله. إنه واحد من اولئك الفنانين الذين يتميزون بقدرة فائفة في توظيف الجسد في التمثيل، اكثر ما برع فيه هو توظيف طبقات «الصوت». اظهر ذلك في العراب لكي يعطي شخصية «العراب» ابعادها الكاملة: اللكنة، طبقة هادئة غالبا تخفي ميلا متأصلا لايقاع الاذى بالآخرين وغضب محسوب في لحظات معينة، لكن براندو بلغ القمة في دور قصير جدا لا يكاد يذكر: العقيد المتمرد كيرتز في فيلم «القيامة الآن» ومن جديد تحت ادارة مخرج العراب نفسه، فرانسيس فورد كابولا.

«القيامة الآن» جنون مطلق يحاكي الجنون الذي اطلقته الحرب الفيتنامية وعبثيتها كلها. لا شيء عاديا يتعلق بهذا الفيلم. لقد كتب كابولا السيناريو مستلهما رواية جوزيف كونراد الاهم «قلب الظلمات»، لكن الجمهور حظي بفيلم كلاسيكي من طراز آخر، ثلاث ساعات واكثر من الهذيان. ثلاث سنوات لتصوير الفيلم في غابات الفلبين. الشركة المنتجة اعلنت افلاسها فقام كابولا بوضع ثروته الشخصية لانجاز الفيلم. استأجر اسحلة من الجيش الفلبيني بقيمة 20 مليون دولار، غالبية زوجات طاقم الفيلم انفصلن عن ازواجهن الغائبين في الادغال، وبالنهاية فيلم استثنائي في تاريخ السينما: حوار اقرب للشعر ومناظر اقرب للوحات سيريالية.

يتسمر المشاهدون ثلاث ساعات واكثر لمتابعة الكابتن بنجامين ويلارد (مارتن شين) المكلف من قبل قيادة الجيش الاميركي في سايغون بالوصول الى العقيد المتمرد والتر كيرتز (براندو) وقتله. الفيلم هو رحلة الكابتن ويلارد وصولا الى معقل العقيد كيرتز على الحدود بين فيتنام ولاوس وكمبوديا، منطقة خارجة عن الجغرافيا وعن المنطق ايضا. لا يظهر براندو الا في المشاهد الاخيرة للفيلم في مشاهد لا تتعدى خمس دقائق، لكن صورته تظل في ذهن المشاهد طيلة الفيلم، منذ اطلالته الاولى في الملفات التي يتصفحها شين وهو يقرأ عن الشخص المكلف بقتله. الحوار بين براندو وشين كان اشبه بالمباراة بين الاثنين تتوج ثلاث ساعات من الرعب انتظارا لموت يعرف الاثنان أنه قادم. شين يقف امام ضابط نموذجي ومثالي لكن الحرب دفعته للتمرد. براندو يحاور شخصا يدرك أنه مرسل لقتله، يوظف طبقات صوته وقسمات وجهه في حوار قصير لا يتعدى ثلاث دقائق، يتحدث بهدوء من ادنى طبقات الحنجرة، لكنها طبقة صوت قاتلة تدفع مشاعر المشاهدين لاقصى درجات التوتر والتشوش الذهني. هدوء عقل متمرد اشاد مملكة متمردة تستقبل الزوار بجثث معلقة وطقوس وثنية، لكننا بالنهاية وفي لحظات ما، سننسى أننا نشاهد فيلما، وسنبقى تحت استحواذ براندو كلما تداعت مشاهده في اذهاننا يسأل عقلنا الباطن فيها عما اذا كانت الحرب فعلا لم تخلف مجانين مثل العقيد والتر كيرتز

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 674 - السبت 10 يوليو 2004م الموافق 22 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً