العدد 69 - الأربعاء 13 نوفمبر 2002م الموافق 08 رمضان 1423هـ

الوجود الأجنبي يعيد العالم العربي إلى مرحلة ما قبل الاستقلال

بعد قرار مجلس الأمن والموافقة العربية

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

بصدور قرار مجلس الأمن الخاص بالعراق، أخذ العالم في حبس أنفاسه قلقا وترقبا. لا أحد في العالم، لا دولة حليفة لواشنطن ولا دولة من معسكر خصومها يريد حربا في المشرق العربي، لا أحد سوى حفنة صغيرة من المسئولين الأميركيين والصهاينة الذين نجحوا منذ وصول بوش إلى البيت الأبيض في تحويل مشروع الهجوم على العراق أيديولوجية للسياسة الخارجية الأميركية وإلى طريق لإعادة ترميم السيطرة الأميركية السياسية والاقتصادية على العالم. أحد الاحتمالات المتوقعة من صدور قرار مجلس الأمن، بعد شهرين كاملين من الصراع الدبلوماسي بين الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، هو بدء العد العكسي للحرب وتقديم غطاء دولي لمشروع الهجوم الأميركي على العراق.

الاحتمال الآخر الذي يروج له المتفائلون أن القرار الدولي يمثل تراجعا للحرب وطريقا لأن يتخلص العراق مرة وإلى الأبد من نظام الرقابة والعقوبات الدولية. كل ما يحتاجه العراق الآن، يقول هؤلاء، هو ابتلاع قرار مجلس الأمن مهما كانت الإهانة التي يحملها أو الانتهاكات التي سيتسبب بها لسيادة العراق، بذلك سيؤكد العراق في النهاية للمجتمع الدولي خلوه من أسلحة الدمار الشامل، ويفوت علي الرئيس الأميركي وصهاينة إدارته فرصة شن الحرب.

ليس ثمة من شك في ضرورة أن يستجيب العراق للقرار الدولي وأن يتعاون من دون تحفظ مع فرق التفتيش الدولية، هذا ربما هو الطريق، بل الطريق الوحيد المتبقي، الذين قد يمكن من خلاله مقاومة قرار الحرب الأميركية وما قد ينجم عنها من إيقاع المزيد من الدمار في المنطقة، احتلال أميركي للعراق، وبدء حقبة من الهيمنة الأميركية غير المسبوقة في الشأنين العربي والدولي، ولكن المشكلة أن قرار مجلس الأمن، رغم التعديلات التي أجريت على النص الأنجلو-أميركي، مازال قرارا سيئا. ينطق القرارأصلا من افتراض انتهاك العراق للقرارات الدولية السابقة، ويسمح لبغداد شهرا واحدا لتقديم كشف شامل ببرامج التسلح والأبحاث الكيماوية والبيولوجية (حتى تلك التي لا تصب مباشرة في خانة التسلح)، إضافة إلى أن القرار يعطي لجنة المراقبين حق «الاختطاف الشرعي» لأي مسئول عراقي إلى خارج العراق بهدف استجوابه بمعزل عن الضغوط الرسمية العراقية. فوق ذلك بالطبع فإن القرار يعطي لأي دولة من دول المجتمع الدولي توجيه الاتهام الذي تريد للعراق ومطالبة الدولة العراقية تبرئة ساحتها من هذا الاتهام. القرار، باختصار، وضع أساسا لاستباحة العراق، وفتح الباب لاستفزازه بشكل أو بآخر، ودفعه لمحاولة مقاومة هذه لاستباحة، والنتيجة معروفة، فأي مقاومة للاستباحة ستشكل مسوغا لبدء العدوان، هذا ما يجعل مستقبل الأزمة مفتوحا على احتمالات واشنطن وبغداد معا، وليس بغداد فحسب كما تروج الدوائر الأميركية.

الغائب الحاضر عن هذا التدافع السياسي الهائل الذي يوشك أن يجر المشرق العربي والعالم إلى الحرب هو الموقف العربي. يغيب الموقف العربي، بكبار دوله وصغيرها وبشارعه ومثقفيه، عن الجدال والتدافع الذي يشهده العالم حول الحرب الأميركية، الجدال بين صانعي الرأي العام وممثليه وبين القوى السياسية والمدنية. فيما يزداد العالم إدراكا لعواقب مشروع الحرب الأميركية على الوضع العالمي وتوازنات قواه، ولما سينجم عن هذا المشروع من سيطرة أميركية وتحكم في القرار الدولي، يغيب العرب عن رؤية المخاطر الجمة التي توشك على الإحاطة بهم وبمقدراتهم، دولا وشعوبا طوال شهري التدافع داخل مجلس الأمن حول القرار الخاص بالعراق، لم نر مجرد لقاء عربي جماعي أو شبه جماعي واحد، لا على مستوي القمة ولا على مستوى أدنى، للإعراب عن موقف المحيط العربي المرتبط مباشرة بمستقبل العراق. وحتى فيما يخص الوضع العراقي الوطني، لم تجر هناك مجرد محاولة لطرح وجهة نظر عربية علي القيادة العراقية بشأن علاقة السلطة العراقية بشعبها والقوى السياسية المعارضة لها. غياب كامل تقريبا وكأن الشأن العراقي ليس شأنا عربيا.

اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة في 9 و10 الشهر الجاري، وبعد يومين من صدور قرار مجلس الأمن، جاء سريعا، مستعجلا، ولا هدف له إلا الاسترضاء الجزئي للعراق والشارع العربي، ما انتهى إليه الاجتماع، الذي ازدحم بقدر لا بأس به من النفاق العربي الرسمي، هو القبول بقرار مجلس الأمن وتقديم غطاء عربي ما للعراق لقبوله. الانطباع الوحيد الذي خرج به المراقب لاجتماع وزراء الخارجية العرب، أن الوزراء قاموا بالتصديق على قرار لم يكن لهم من دور في صوغه أو تعديله، وحثوا العراق على قبوله بدون أن يكون لديهم مجرد تصور لدورهم في منع تحوله إلى غطاء للحرب.

بيد أن الموقف العربي حاضر أيضا، حاضر بصورة أخرى وعبر وسائل أخرى، فمنذ بدأت التهديدات الأميركية بالحرب وطرح العراق من جديد باعتباره مسألة دولية ساخنة، لم تخف المصادر الأميركية الرسمية مطلقا أن عددا من الدول العربية يرغب فعلا بالتعاون من أجل إطاحة النظام العراقي وتسهيل مهمات الحرب الأميركية. في الوقت الذي كانت تزداد فيه التصريحات العربية الرسمية المعارضة لحرب، كانت التقارير تتزايد حول الحشود البرية والبحرية والجوية الأميركية في الدول العربية المجاورة للعراق، سواء من خلال قواعد مؤجرة للأميركيين لا يوجد للدولة العربية المضيفة أدنى سيطرة عليها، أو من خلال خدمات وتسهيلات لوجستية، وإن وقعت الحرب فإن الأرجح أن دولا عربية قليلة في المشرق لن تصبح بشكل أو بآخر طرفا في هذه الحرب من خلال علاقاتها العسكرية ذات المدى الطويل أو الطارئة مع الولايات المتحدة. المسألة التي لا يمكن تجاهلها، والتي لم تصبح بعد مسألة حوار عام في العالم العربي، أن المنطقة العربية عادت عدة عقود إلى الوراء فيما يتعلق باستقلالها وسيادتها على ترابها الوطني وارتباطها بأمن عربي جماعي. المنطقة العربية هي الآن، ومن دون أدنى مبالغة، تعيش المرحلة السابقة على انتصار حركة الاستقلال الوطني، منطقة ينتشر علي ترابها وفي فضائها الوجود العسكري لأجنبي، تماما كما كان عليه الوضعف في الأربعينات والخمسينات.

عاد الاستعمار إلى بلادنا من جديد، عاد ليس فقط من خلال البنى الإمبريالية الجديدة للثقافة والتجارة والاقتصاد، بل من خلال الوجود الإمبريالي التقليدي من جيوش وأساطيل وقواعد جوية ومراكز تموين وقيادة، بدلا من القواعد البريطانية في السويس والحبانية وعدن، ثمة قواعد عسكرية أميركية وبريطانية لا تعد، وبدلا من نصوص المعاهدات التقليدية لحقبة ما بين الحربين المتعلقة بالتسهيلات العسكرية في زمن الحرب، ثمة تسهيلات عسكرية دائمة ووجود عسكري قيادي أميركي وسلسلة من المناورات المشتركة مع الأميركيين والبريطانيين، التي أصبحت بحد ذاتها مؤسسات تعاون دائمة، ليس من هدف لها إلا تهديد الجوار العربي. الحقيقة التي لا ينبغي إنكارها أن آباءنا قد أورثونا أوطانا حرة إلى حد كبير، أوطان حررت على الأقل من الوجود العسكري الأجنبي، وأن جيلنا يوشك أن يورث أبناءه أوطانا قد أعيد احتلالها، أوطانا فقدت استقلالها وحريتها وسيادتها.

شهدت الثقافة العربية خلال ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتشار النظام الديمقراطي في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية جدلا واسع النطاق حول غياب الديمقراطية في الوطن العربي وضعف المجتمع المدني وثقل وطأة الاستبداد السياسي، وصل هذا الجدل ذروته قبل شهور قليلة بنشر تقرير الوضع التنموي في العالم العربي، الذي أعدته مجموعة من «الخبراء» العرب وصدر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية. مثل التقرير وثيقة إدانة تفصيلية لغياب الديمقراطية وانتشار الأمية وعدم الانفتاح على الثقافة العالمية وتدهور أوضاع المرأة... إلخ.

بشكل من الأشكال، وضع معدو التقرير مسألتي غياب الديمقراطية وهشاشة التنمية في العالم العربي (التنمية بمعاييرها الغربية المتعارف عليها) في سلة واحدة، موحين بتلازم الظاهرتين. ولا يختلف خطاب التقرير عن الخطاب السائد في أوساط المثقفين العراقيين، المعروفين بعلاقاتهم الأميركية الوثيقة، الذين يرون في مشروع الحرب الأميركية على العراق مشروعا لبناء عراق جديد، عراق ديمقراطي، منفتح علي العالم وعلى السوق العالمية، عراق يقدم الرفاه الداخلي على كل المسئوليات الأخرى، وعراق يتحول تحت الاحتلال الأميركي العسكري إلى أنموذج يحتذى به في المنطقة العربية ككل.

يمثل هذا الخطاب الوجه الآخر للأزمة العربية المستحكمة عندما يهمل نهائيا قضية الاحتلال والوجود العسكري الأجنبي ويغرق في جدل سطحي وتظاهري حول الديمقراطية والتمثيل والمشاركة وتداول السلطة فيما الأساس الأولي لبنية الدولة في العالم العربي انهار أو تضعضع. أي صراع علي القرار والثروة فيما الدولة العربية لم تعد تملك من أمرها إلا القليل، وقد استقرت على ترابها القوى الأجنبية وأصبحت سيادتها مرتهنة للقرار الأجنبي؟

منذ ولادة دولة الاستقلال العربية كان واضحا أن المحافظة على الاستقلال وتأمين الرفاه غير ممكنين بدون تنازل جوهري عن سيادة الدولة القطرية لصالح نظام عربي أوسع، ولكن خيار النخب العربية الحاكمة، رغم الشعارات القومية والوحدوية، كان لصالح توكيد الدولة القطرية والمحافظة على كيانها وحدودها، مهما بلغ هذا الكيان من ضعف واتسمت حدوده من سوريالية سياسية. في النهاية، أوصل تناحر الكيانات وامتناعها عن التقدم بالمشروع الوحدوي العربي، أوصلها إلى الاستعانة بالقوى الأجنبية والنفوذ الغربي لحمايتها من الشقيق العربي. السيادة التي استعصت علي مشروع الوحدة تم استباحتها على يد القوى والأساطيل الأجنبية، وعادت المنطقة من جديد إلى حقبة الاستعمار المباشر. ليس من شك بأن سؤال الحرب في العراق قد أصبح السؤال الأكبر الذي يخيم على الفضاء العربي السياسي والثقافي. ولكن ربما كان هناك سؤال أولى يتقدم سؤال الحرب، سؤال يتعلق بما إن كان هذا الجيل من العرب قادرا على تحرير الوطن من الاحتلال الأجنبي، من جديد

العدد 69 - الأربعاء 13 نوفمبر 2002م الموافق 08 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً