العدد 722 - الجمعة 27 أغسطس 2004م الموافق 11 رجب 1425هـ

مرجعياتنا والهنود الحمر...

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

كل أطفال أميركا يتعلمون في مدارسهم - على غرار السياح المغفلين - كيف أن جورج واشنطن أحد ما يسمى بـ «الآباء العظام» للأمة الأميركية اختار موقع العاصمة في أرض عذراء على ضفاف نهر يوتومك، وكيف أنه طاف بنفسه في مجاهلها البكر واستحسن موقعها المفتوح على خيرات نهر اوهايو، متوسطاً مجاهل الشمال ومجاهل الجنوب. ليس هناك من طفل أميركي يتعلم شيئاً عما «تحت الحداثة» من دم وسلام، عما لا يعرفه إلا الموتى، عن أعضاء واشنطن السفلى، عن مدينة نكن شتنكِه وشعب كونوي الذي دفن العام 1623 تحت عاصمة «إسرائيل الجديدة» في أول لقاء بين مستعمري فرجينيا الإنجليز الذين كانوا يزعمون أنهم «شعب الله المختار»، وبين هؤلاء «الكنعانيين بالقوة حتى الموت»، يومها كانت هذه المدينة النهرية مقراً للزعيم «بِتومكه» وشعبه وكان النهر يسمى باسمه ويشق مدينة اسمها نكن شتنكِه. هذا النهر الذي يشق الآن واشنطن ويفصل بين ولايتي فرجينيا وميرلاند وتطل عليه المقاهي السياحية وشرفات ووترغايت ومبنى الكونغرس وجنرالات البنتاغون كان قبل أن يصبح مسبحاً لأطفال كونوي ومغتسلاً لصباياه وريّاً لحقول الذرة وأشجاراً مثمرة لم تحلم بها فلسفة «هوراسيو».

«حين لفظت اسم مدينة نكن شتنكه لأول مرة ضحك الطبيب الهندي وقال: لا بأس! كنتَ ستلفظ اسم (واشِن - غتن) بالصعوبة نفسها لو أنها كانت هي المدينة المقبورة تحت نكن شتنكه، أو لو أن أهلها أُبيدوا وانمحوا من ذاكرة الإنسانية كما أُبيد أهل هذه المدينة».

هذا الكلام الذي قرأتموه أعلاه هو مقاطع من كتاب «تلمود العم سام» للكاتب والباحث الاجتماعي السوري الكبير منير العكش والذي يكشف فيه قصة قيام دولة الولايات المتحدة الأميركية بالوثائق والأدلة والبراهين والأرقام التي تتكلم ألماً ودماً، على حساب «112 مليون إنسان هندي أحمر ينتمون إلى أكثر من 400 ثقافة وأمة مطرودين من اللغات والألسنة والذكريات ورفوف المكتبات، محرومين من فردوس الموت الإنساني، مسلوخين من أسمائهم وأرواحهم وتوابيتهم وأرحام أمهاتهم، يرقدون الآن بسلام دائم كما يرقد شعب كونوي مع عضويات الوحول والطمي والغضار تحت المدن والمزارع والحقول الآمنة التي كانت ذات يوم مدنهم ومزارعهم وحقولهم وملاعب وجودهم».

لكن زعيم هذه الأمة الهندية العظيمة تراه على رغم ذلك واقفاً كالطود يدافع عن كل ذرةٍ من تراب أو قطرة من ماء شعبه قبل أن يرحل: «كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع صباب الماء؟ كل شبر من تراب هذه البلاد مقدّس عند شعبي، كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الاحراج، كل حشرة تمتص أو قطن، كل ذلك مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة... قد ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض... لكننا نرى رماد آبائنا مقدساً، وقبورهم بقيعاً مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار».

إلى أن يقول مختتماً رسالته: «ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إن القبائل لا يصنعها الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر... وحينما يزول آخر إنسان أحمر فوق الأرض، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري، ستظل هذه الشطآن والغابات مسكونة بروح شعبي...».

فبفضل هؤلاء الناس الرعاع «والبروليتاريا الرثة» وجمهور «العوام» إنما صارت لكم كل تلك المكانة، وبفضل أولئك إنما وصلتم إلى ما وصلتم إليه، وبفضل رائحة عرق تلك الجموع المتراصة المدافعة عن الدين والدولة والوطن لا تزالون مستمرين في البقاء!

هذا ما عرفته وتعلمته الدول والأمم الغازية من تجربتي «إسرائيل الجديدة» الأولى و«إسرائيل الجديدة» الثانية في كل من أراضي الهنود الحمر وأراضي الفلسطينيين.

لذلك تراهم يحاولون جاهدين استبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ، في محاولة لإنجاح أكبر عملية تزوير في التاريخ، إذ يصبح من خلالها صاحب الدار خارجاً على القانون ومتمرداً وإرهابياً! فيما يصبح المحتل والغازي والمغتصب رافعاً لراية جيش الدفاع! الإسرائيلي أو قوة تحرير العراق وراعي الاستقرار! فهل تنهض مرجعياتنا من غفوتها قبل أن نتحول إلى أمة مدفونة تحت أنقاض واشنطن جديدة؟!

من يقرأ هذا الكتاب الوثائقي، وقبله كتاب «حروب الإبادة» سرعان ما يكتشف ليس فقط سر العلاقة الحميمة بين إدارات واشنطن المختلفة على امتداد الخمسين سنة الماضية، وبين الرابضين على صدر الشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة من صناع القبور الجماعية والهولوكوست الفلسطيني، بل سر انتشار القتل المنظم والمتجول في أنحاء العراق المحتل على امتداد الستة عشر شهراً الماضية من دون أن يتحرك طرف ضمير قادة الغرب العظيم!

بالدم البارد نفسه الذي أبيدت فيه شعوب وأمم الهنود الحمر الـ 400 أصحاب الأرض الأميركية الأصليين، عمل الإسرائيليون - ولايزالون - على تكرار ما قام به «الحجاج الإنجليز الأوائل» في فلسطين المحتلة، وبالطريقة نفسها يحاولون اليوم في العراق الجريح والشهيد.

هذا ما تؤكده التقارير المتواترة التي تصل إلى أسماع من يهمه أن يسمع، فضلاً عما يجري حقيقة فوق الأرض الفلسطينية وما يخطط له في العراق.

كل جيوش العالم تتدخل في العراق، كل الشركات المتعددة الجنسية لها رأي فيما يجري في العراق، بل لها قرار، عشرات بل مئات الشركات الخاصة التي تتوزع مسئولية «عسكرة» فضاء المجتمع العراقي، لها رأي وقرار في طريقة تأمين استقرار العراق وأمنه! إلا العراقيين أنفسهم، فإن من يتحرك منهم للمطالبة بأي حق سرعان ما ينعت بالخارج على القانون! أو المتمرد على الشرعية! أو المحرّض على العنف والإرهاب! تماماً كما يتم التعامل مع شعب بأكمله في فلسطين بجغرافيتها التاريخية على امتداد العقود الخمسة الماضية.

بالمقابل فإن غياباً كاملاً لمن يفترض أنهم يمثلون شعوب هذه المنطقة الحية من العالمين العربي والإسلامي بات مشهوداً على المسرح السياسي العالمي، ما يبعث على التشاؤم والقلق، وكأننا أمام حالة انقراض أو استحالة «أمة» جديدة يُراد لها أن تضاف إلى الـ 400 أمة وشعب من أمم وشعوب الهنود الحمر.

في غزة، كما في نابلس، كما في الفلوجة، كما في النجف، تستمر حروب الإبادة المنظمة، وليس هناك من هو بقادر على فعل أي شيء يوقف هذا الزحف المنظم على حياة هذه الأمة، اللهم إلا أصوات العرض الوصفي والصحافي لما يجري من قبل من ينتظر منهم اتخاذ القرارات المصيرية، وليس التحول إلى محللين صحافيين أو شهود عيان على الجريمة!

كل المرجعيات السياسية، كما كل المرجعيات الدينية، كما كل المرجعيات والنخب الفكرية سقطت في الامتحان، وحدها الناس من عامة «الغوغاء» هي التي تُبدي إشكالاً من الممانعة الأولية والابتدائية في محاولة لوقف «الانقراض»، وحتى لا تتحول إلى أمة هندية مستحيلة!

يتساءل الكثيرون بألم وفي منتهى الشفافية: كيف تسوّغ لنفسها تلك المرجعيات السياسية والدينية والفكرية البقاء على عرش «الزعامة» في وقت سقطت فيه في الامتحان مرتين، مرة لأنها لم تتمكن من وقف الزحف الأجنبي المنظم على مناطق نفوذها، ومرة أخرى عندما خذلت «رعيتها» تاركة إياها لوحدها تواجه مصيرها بقسوة وألم؟!

وإذا كانت تلك المرجعيات تعتقد أن بإمكانها البقاء محتفظة بنفوذها ولو على جدران وقبب مقدسة فقط، فإن التاريخ يقول عكس ذلك تماماً

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 722 - الجمعة 27 أغسطس 2004م الموافق 11 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً