العدد 750 - الجمعة 24 سبتمبر 2004م الموافق 09 شعبان 1425هـ

قص ولزق

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

منذ سنوات، يطلب المعلمون والمعلمات من التلاميذ والطلبة إعداد بحوث في جميع المواد منذ الصفوف الابتدائية. لكن التلاميذ غالبا ما يلجأون إلى آبائهم وأمهاتهم طلبا للمساعدة. المشكلة ليست هنا، بل عندما نكتشف أن التلاميذ لا يعرفون كيفية إنجاز البحث، او ما هو البحث وأدواته.

في الغالب يلجأ الصغار الى أية مجلة او كتاب او حتى موقع الكتروني وينقلون الفقرات نقلا. انتبهوا جيدا للكلمة الاخيرة: «النقل». يمكن لنظام تعليمي بكامله ان يتأسس على «النقل» وليس على «العقل». الفارق جلي وواضح بين ان نربي التلاميذ على «التفكير» أي استخدام العقل أو ان نربيهم على «النقل». الخلل في هذا التفصيل يكمن في الفارق بين دفع الطلاب إلى إنجاز ابحاث من اجل علامات اضافية وبين ان نعلمهم فلسفة واصول البحث ومناهجه وادواته.

في مطلع الثمانينات، انجز علي فخرو بصفته وزيراً للتربية النقلة الاولى المطلوبة لاصلاح التعليم عندما اعاد تأهيل المعلمين وارسلهم الى الجامعة لكي ينالوا درجة التأهيل التربوي الجامعية. وباتت وزارة التربية لا تقبل مدرسين لاي مرحلة الا من خريجي الجامعة والحاصلين على مؤهل تربوي. وزاد على ذلك بتطوير نظام التعليم وادخال نظام التفريع ونظام الساعات المعتمدة ونظام المدرسة كوحدة تربوية. أحدثت كل تلك الاصلاحات حركة واسعة في قطاع التعليم، نشطت المؤتمرات التربوية وزاد عدد الذين يتأهلون لنيل درجة الدكتوراه في التعليم والتربية وباتت المدارس تتسابق من أجل تطوير نفسها.

لكن عندما يتذكر المرء ذلك العناد الذي كان يبديه الكثيرون بمن فيهم المعلمون أنفسهم حيال هذه الخطط سيدرك أن الخلل قد لا يكمن في الأنظمة ولا في الخطط ولا في المدارس المجهزة، بل في أساليب التعليم نفسها. ماذا نعلم الطلاب؟ كيف نعلمهم؟ ماذا نريد من التعليم؟ ما مقياس التفوق الدراسي، حفظ المنهج أم اكتساب المهارات أم اكتساب مهارات ومعارف اضافية خارج المنهج؟

كان ذلك في الثمانينات، لكن إحدى الثمار عايشتها ملياً في تجربة تدريس قصيرة في جامعة البحرين في الفترة المسائية في العام 2000. لمواجهة نقص الاساتذة، طلب مني رئيس قسم الاعلام وقتذاك فواز طوقان تدريس مقرر «فن المقال الصحافي» لمدة ثلاثة اشهر لطلاب الفترة المسائية. في لقائي الاول معهم سألتهم: «لماذا تريدون ان تدرسوا الصحافة والاعلام؟». اجوبة متنوعة وبعضها بليغ مستمد من المسلسلات العربية، مثل «الصحافة مرآة المجتمع»، لكن هذه البلاغة لم تصمد كثيرا لانهم اعترفوا في النهاية بأنهم يريدون شهادة وكفى. وعندما وضعت لهم امتحانا من سؤالين الاول تحليل لمقال والثاني كتابة مقال يختارونه، صعقوا وذهلوا وقذفوا السؤال في وجهي: وماذا عن الكتاب؟ لقد حفظنا ما فيه وتوقعنا اسئلة منه؟ احفظوا هذه العبارة جيدا: «حفظنا ما في الكتاب». في ايامنا كان اباؤنا يحثوننا على المذاكرة بعبارة شهيرة: «روح تحفظ دروسك».

وفي العام 2000 ايضا، أجرت وزارة التربية امتحانات لخريجي الجامعة المتقدمين للتدريس. ابلغني احد المشرفين على الامتحانات من قسم التدريب ان 50 متقدما من خريجي احد التخصصات لم يجتازوا الامتحان وكان معدل النجاح 80 من 100. طلبت اليهم الوزارة تخفيض المعدل الى 60 فلم ينجح الا حوالي خمسة منهم. توالى تخفيض معدل النجاح مرتين اضافيتين الى ان وصل الى 30 فنجح نصف العدد.

لا تذكروني بالاستثناءات فهي تبقى استثناءات ولو كان هناك تغيير لما سعى المئات الى الدراسة حتى ايامنا هذه من اجل الشهادة وسيلة للترقي الوظيفي فقط. هذا ليس ذنبهم ايضا بل ذنب جهاز بيروقراطي يقيم وزنا للشهادة على حساب المعرفة والكفاءة. فالبيروقراطيون هنا لا يسألون المتقدم: ماذا تعرف او ماذا يمكنك ان تقدمه إلينا؟ بل يسألون: ما شهادتك؟ ويزيدون أحيانا: «ابن من انت؟».

منذ الثمانينات وحتى اليوم يتحدث مسئولو التربية عن كل أنواع الخطط: ادخال الحواسيب في المدارس، الاستفادة من التجربة اليابانية، تطوير المناهج لتلبية احتياجات سوق العمل. لكنهم في غمرة هذا كله ينسون التوقف امام سؤال بسيط: «الدافع الذاتي للمعلم في عمله». بمعنى آخر: «كفاءة المعلم نفسه». هذا السؤال لا يخص مسئولي التربية فقط، بل يخصنا جميعاً، والنصيحة هنا للجميع بدراسة التجربة الالمانية لكي يدركوا الفارق بين ان تحصل على الوظيفة لانك مواطن يحمل «شهادة» وان تحصل عليها لانك اثبت كفاءتك باجتياز عشرات امتحانات الكفاءة. الكفاءة بالمعنى الأشمل بما فيه الدافع الذاتي وليس تلك التي تقررها الشهادة

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 750 - الجمعة 24 سبتمبر 2004م الموافق 09 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً