العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ

من التصوف إلى السلفية ومن الشيشان إلى بن لادن: أزمة الخطاب الإمبريالي

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

يلاحظ من يطلع على الصحف الروسية، سواء تلك الموالية لبوتين أو المعارضة له، توجها واحدا تقريبا فيما يتعلق بالمسألة الشيشانية: إن المشكلة في الشيشان هي صنيعة مجموعة من الاسلاميين الدخلاء والثقافة الدخيلة على الشيشانيين، مجموعة من الإسلاميين الوهابيين. زهاء العشرة في المئة من سكان جمهورية الشيشان تمت ابادتهم، عشرون في المئة آخرون يعيشون في معسكرات للاجئين في أنحاء الجوار القوقازي، ومن تبقى في قراهم ومدنهم يتعرض لأبشع أنواع القمع وانتهاك أبسط الحقوق الانسانية، من اعتقال وتعذيب وتجويع وقتل واغتصاب على نطاق واسع. غروزني، عاصمة الجمهورية، تحولت إلى مدينة أشباح، وآلاف الجنود الروس يعيثون فسادا في الكثير من مدن وقرى الجمهورية الأخرى. كل هذا صنيعة حفنة من الشيشان المنشقين الذين تحركهم مؤثرات وهابية دخيلة.

هذه الإحالة لمعضلة الإمبريالية الروسية على تصور معين للإسلام، لم تقتصر على روسيا ولا هي جديدة. خلال حرب المقاومة الداغستانية في القرن التاسع عشر (1830 - 1859) التي قادها عدد من أتباع الطريقة الصوفية النقشبندية، أبرزهم كان الزعيم الداغستاني الشهير الإمام شامل، وجدت روسيا القيصرية في النقشبندية مشجبا مناسبا للشر. كما الخطاب الامبريالي الأنجلو - فرنسي في القرن التاسع عشر، رأت روسيا القيصرية مهمتها في شمال القوقاز مهمة حضارية، وأية مقاومة لها هي انعكاس لنزعات التعصب والتخلف والانحطاط. في عرف الروس كان هناك تطابق بين مشروع «الروسنة»، أي تحويل مسلمي شمال القوقاز إلى روس ثقافيا ولغويا، وبين اتجاه قوى الحضارة في اطارها الأوروبي. وفي عرف روس القرن التاسع عشر، كان هناك بالتالي تطابق بين مقاومة مشروع الروسنة والقيم المتخلفة للتصوف النقشبندي. المشكلة في المقاومة الداغستانية (ومن ثم الشيشانية) في القرن التاسع عشر لم تكن المشروع الامبريالي الروسي التوسعي بل قوى التخلف والتعصب المرتبطة بالطريقة النقشبندية «الدخيلة» على شمال القوقاز.

في مقال مهم نشر في العدد الأخير من (Die Welt des Islaٍَّ) المجلة الأكاديمية الألمانية المتخصصة في الدراسات الاسلامية، يوجه المؤرخ الأميركي (من أصل روسي) الكسندر كنيش، أحد أبرز دارسي التصوف الإسلامي، نقدا صارما إلى القراءة الروسية للمقاومة الإسلامية في القرن التاسع عشر، وإلى الباحثين والأكاديميين الذي اعتمدوا تلك القراءة. ليس ذلك فقط، بل أن كنيش يعتبر القراءة الروسية تلك جزءا لا يتجزأ من القراءة الامبريالية الغربية للمقاومة التي أبداها المسلمون لقوى الاحتلال الأوروبي. مشجب الصوفية لم يكن حكرا على الروس، فقد استخدم على نطاق واسع من قبل الخطاب الامبريالي البريطاني والفرنسي لتفسير المقاومة الاسلامية في السودان والصومال والجزائر وغرب افريقيا، كما استخدمه الهولنديون للهدف ذاته في أندونيسيا، والإيطاليون في ليبيا.

في السودان، واجهت بريطانيا المقاومة الإسلامية مجسدة في الحركة المهدية، وفي الصومال ارتبطت المقاومة بفروع القادرية والإدريسية. في الجزائر، قاد عبدالقادر الجزائري ذو الجذور القادرية والنقشبندية المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في الفترة ذاتها التي كان فيها شامل يقود الداغستانيين ضد الغزو الروسي لشمال القوقاز. ولعبت السنوسية دورا بارزا في المقاومة ضد الفرنسيين والإيطاليين في ليبيا وتشاد وأنحاء الغرب الافريقي الأخرى. كون هذه القوى جميعا ذات طابع صوفي طرقي، فقد أصبح من المناسب لدى قادة الجيوش الأوروبية الغازية، موظفي الإدارات الاستعمارية، وحفنة الباحثين المرتبطين بهم، تصوير حركات الجهاد الاسلامي في القرن التاسع عشر باعتبارها مجرد صرخات يائسة لثقافة صوفية مغلقة وبالية توشك قوى الحضارة والتقدم أن تلقي بها خارج التاريخ. المشكلة إذن هي التصوف وليس المشروع الامبريالي.

يدحض كنيش، مرتكزا على فهم عميق لاتجاهات التصوف الاسلامي في القرن التاسع عشر ولحركة المقاومة الاسلامية في شمال القوقاز، نظرية الصوفية الجهادية من أساسها، ويصفها بالتأريخ المستند إلى التقارير الأمنية الامبريالية. لم يكن الإمام شامل شيخا رئيسيا بل مجرد مريد لأحد شيوخ الطريقة في داغستان، كما أن النقشبندية لم تكن في عمومها من مؤيدي الجهاد والمقاومة المسلحة للروس. وفي حين أيد بعض شيوخ الطريقة الجهاد فإن شيوخا آخرين عارضوا نهج المقاومة المسلحة، مؤكدين الطبيعة الروحية التربوية للتصوف. الأهم من ذلك أن ليس هناك من دليل واحد يربط بين الأسس الفكرية للطريقة النقشبندية في النصف الأول للقرن التاسع عشر وبين التوجه المسلح. بمعنى، أن ليس ثمة من قيم معينة في الثقافة الصوفية عموما، وفي النقشبندية خصوصا، يمكن أن تعتبر المحرك المحدد للتوجهات الجهادية في شمال القوقاز. هذا الاستنتاج ينطبق إلى حد كبير على السنوسية أيضا، التي ولدت باعتبارها حركة إصلاح اسلامي داخلي لا إطارا لمقاومة السيطرة الأجنبية. الاستثناء الوحيد، الذي لا يمكن أن يشكل قاعدة بأي شكل من الأشكال، يتعلق بالحركة المهدية التي حملت منذ ولادتها خلال النصف الثاني للقرن التاسع عشر توجهات معادية للإدارة المصرية - التركية في السودان التي كان يقودها آنذاك إداريون أوروبيون. بكلمة أخرى، لو لم توجد النقشبندية أو السنوسية أو المهدية لكانت الشعوب الإسلامية قاومت الغزاة الأجانب أيضا.

هذا طبعا لابد أن يطرح أسئلة عدة بخصوص تحويل الوهابية (وأحيانا السلفية ككل) إلى مصدر كل الشرور التي يلقيها الخطاب الغربي المعاصر على عتبة العرب والمسلمين. في روسيا، وبعد قرن ونصف القرن على هزيمة الإمام شامل، لم تعد الصوفية هي الإشكال. بل ان الصوفية تقدم الآن في الكتابات الروسية باعتبارها ثقافة مسالمة وصديقة لشعوب شمال القوقاز. المشكلة هي الوهابية الدخيلة، وهابية المجاهدين العرب الغرباء على القوقاز وأصدقائهم من القادة الشيشان المنشقين. ولا يقتصر لوم الوهابية (والحركة السلفية عموما) على الخطاب الروسي. فمن كتّاب الصحف البريطانية الجادة، إلى كبار الباحثين الفرنسيين المتخصصين في الدراسات الإسلامية الحديثة، إلى رجال الإدارة الأميركية وزعماء الكونغرس، مرورا حتى بالأكاديميين الغربيين ذوي النزعة الإنسانية، ثمة اتفاق على أن الوهابية /السلفية هي الحقل الثقافي المتطرف والعدواني الذي ولدت فيه «القاعدة» وتيارات الإسلام الراديكالي المسلح المعادي للغرب ولنمط الحياة الغربية كافة. كما الصوفية في القرن التاسع عشر، فإن الوهابية/ السلفية اليوم تحتل بامتياز موقع القوة الإسلامية المتخلفة المناهضة لقوى الحضارة والتقدم. وكما الموقف في القرن التاسع عشر، فإن المسافة الفاصلة بين الخطاب الغربي والسياسة الغربية قد ضاقت إلى حد كبير.

إن كانت السلفية هي المشكلة فينبغي أن تتحرك الجيوش الأميركية لهزيمة بؤر التخلف والانغلاق والعنف أينما كانت، حتى إن استدعى ذلك اجتياح المشرق العربي كله. لم يخطر على بال صانعي السياسة التوسعية الروسية في القرن الماضي أو نظرائهم في باريس ولندن وامستردام، بأن الاحتلال والقمع والسيطرة على شعوب أخرى، تخالفهم في أنماط حياتها وقيمها، هو شر في حد ذاته. ما سيطر على عواصم الميتروبول الأوروبي هو امتلاكها الحق المطلق في أن تفعل ما تريد طالما هي تخوض حربا عالمية الأبعاد بين الحضارة والتخلف، بين الحرية والتعصب، بين قيم التقدم والرقي الإنساني وقيم الانحطاط والانشداد إلى الماضي. وليس لأحد إلا أن يقرأ خطابا حديثا لجورج بوش أو طوني بلير ليدرك أن شيئا لم يتغير في الخطاب الغربي عن الإسلام والمسلمين. يكاد النص المسبوغ للسياسات الامبريالية الغربية في مطلع القرن الحادي والعشرين أن يكون إعادة انتاج حرفي لنصوص السياسيين والمختصين الروس والبريطانيين والفرنسيين في القرن التاسع عشر.

ولدت الحركة الوهابية، التي تنسب إلى مؤسسها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في منطقة نجد من الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وتنتمي مجمل الأفكار التي تميزت بها الحركة إلى التوجه السلفي الإسلامي الأوسع، ذي الجذور البعيدة في الثقافة الإسلامية. تضم السلفية الحديثة والمعاصرة تيارات عدة، ترتبط جميعا بإعلائها للنص الإسلامي المؤسس (القرآن والحديث) وتوكيدها، بمستويات مختلفة، الاجتهاد ورفض النزعات الجبرية والصوفية المتطرفة والانقسامات المذهبية التي سادت الثقافة الإسلامية الوسيطة. باعتبار لحظة الولادة، فإن الوهابية (كما السنوسية) مثلت حركة إصلاح اسلامي داخلي، ولأكثر من قرن بعد ولادتها، فقد افتقدت الوهابية أي توجه خاص معاد للنفوذ الاستعماري الغربي في المنطقة العربية. اليوم، وحتى إن اعتبرنا أن للقاعدة توجهات فكرية وهابية، فإن هناك تجليات أخرى للثقافة الوهابية ترفض اللجوء إلى العنف، على رغم معارضتها للنفوذ الأجنبي وللأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي.

على المستوى السلفي الأوسع، تضم الحركة السلفية في القرن العشرين أطيافا شتى تبدأ بمحمد عبده ورشيد رضا ولا تقف عند يوسف القرضاوي وتيارات المثقفين والمفكرين الإسلاميين المستقلين (مثل محمد سليم العوا ومحمد عمارة وطارق البشري وفهمي هويدي) التي أدانت وتدين توجهات العنف والارهاب ذات الطابع الإسلامي. من بن باديس في الجزائر، محمد مصطفى المراغي ومصطفى عبدالرازق وحسن البنا في مصر، طاهر الجزائري في سورية، عزالدين القسام وأمين الحسيني في فلسطين، إلى محمود شكري الألوسي في العراق: كل هؤلاء ينتمون إلى الحركة السلفية. بعضهم وجد من واجبه حمل السلاح في مواجهة الاحتلال الأجنبي، بعضهم حرض على المقاومة أو كان زعيما للحركة الوطنية في بلاده، آخرون دعوا إلى الإصلاح بمعناه المدني. لا في الوهابية ولا في السلفية خصوصية ما تدعو إلى أو تؤسس للعنف.

في منتصف القرن العشرين، وعندما تقدمت القوى القومية في العالم العربي لتقود حركة النضال ضد النفوذ الإمبريالي، تحولت القومية العربية إلى رمز الشر في المنطقة وأصبحت محل عداء غربي طاحن. ولعدة عقود، كانت الكتابات الغربية والسياسات الغربية ترى في الاسلام (سلفيا كان أو غير ذلك) شريكا يعتمد عليه في الصراع العالمي ضد الشيوعية وامبراطورية الشر السوفياتية التي اتخذها عبدالناصر وبومدين والأنظمة القومية في سورية والعراق حليفا في النضال القومي للتخلص من الهيمنة الغربية.

ما يقوم به بن لادن اليوم هو توليد المسوغات الفكرية الضرورية لاستراتيجية عمله من الثقافة التي ينتمي إليها. وهذا هو ما قام به الإمام شامل ومحمد أحمد المهدي والسنوسيون والقسام والحسيني في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. والإسلام، باعتباره مشروعا ثقافيا كبيرا، استدعى في مناسبات كثيرة خلال القرنين أو الثلاثة الماضية ليسوغ خيارات سياسية متفاوتة ومختلفة في بعض الأحيان. وليس في ذلك ما ينبغي أن يدعو إلى الدهشة أو الاستغراب، فالشعوب ترتكز دائما على مخزونها الثقافي لمواجهة الأزمات والنهوض. ولكن المهم أن المحتوى الايديولوجي أو الثقافي لم يكن هو المعيار في تحديد العلاقة بين الإسلام والمسلمين والقوى الإمبريالية الغربية. كان المعيار في الحقيقة هو المعنى الذي يحمله المحتوى الثقافي، النهج السياسي، والموقف من القوى الإمبريالية والنظام الإمبريالي. ألم تكن الوهابية/السلفية الحليف الأهم للولايات المتحدة في الحرب ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان؟ فكيف اكتشفت الولايات المتحدة فجأة، وبعد أقل من عقدين على هزيمة الاتحاد السوفياتي، أن الحليف السلفي الوهابي يحمل كل هذه الشرور؟

هذا الصراع الماراثوني بين القوى الإمبريالية الغربية (من روسيا القيصرية إلى الولايات المتحدة الأميركية) والعالم الإسلامي، لم تتسبب به لا صوفية القرن التاسع عشر ولا سلفية القرن العشرين. هذا الصراع، الذي ينفجر عنفا بين الحين والآخر، هو تجل لسياسات ولمجموعة علاقات سائدة في العالم، تعرف بالنظام الإمبريالي. ثمة ضرورة لأن يقوم الجسم الإسلامي بعزل قوى التطرف والعنف العبثي التي نحاول الحديث باسمه، وهي مهمة قام بها الإسلام مرات كثيرة عبر تاريخه الطويل. ولكن ذلك لن يضع نهاية للصراع. نهاية الصراع وقيام علاقات انسانية عادية بين العالم الإسلامي والغرب ترتبط أساسا بوضع نهاية لمجمل السياسات والعلاقات الإمبريالية

العدد 76 - الأربعاء 20 نوفمبر 2002م الموافق 15 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً