العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

سنغافورة الخليج

عبير إبراهيم abeer.ahmed [at] alwasatnews.com

«البحرين سنغافورة الخليج»... جملة كنت أطرب لسماعها وأفتخر وأعتز بها، وهل هناك أجمل من أن يشبه الوطن بأرض من أجمل ما أبدع الخالق فورثها الإنسان وحافظ عليها وأضاف إليها من طاقاته كسنغافورة؟!

وسنغافورة لمن لم تسنح له الفرصة بزيارتها - وما أقلها هذه الفرص - بلد يكتسي خضرة وورودا وتغاريد الطيور تدغدغ مشاعرك مع إطلالة كل صباح... تشعر فيها بالهدوء وتسكن نفسك أحاسيس وديعة ربما كنت افتقدتها مع ازدحام أجندة يومياتك بما يسلبك ليس فقط وقتك وإنما حتى عقلك!... سنغافورة أراها مسكنا لكل شاعر هائم ليسطر أروع ما كتب، وخصوصا مع زخات مطر الصباح الناعمة واختفاء الشمس وراء أشجارها الباسقة وكأنك في حال من المرح معها تلاحقها وتختفي فتبحث عنها وتجدها ثم سرعان ما تعاود الاختفاء.

وعلى هذا فسنغافورة لا تخلو من مبان وعمارات وفنادق، وأكيدا مصانع، لكنك في كل الأحوال بإمكانك أن تشعر بجمال ينعكس تأثيره عليك روحا وجسدا... عند استيقاظك على صوت حبيبات المطر وهي تطرق زجاج نافذة غرفتك... نصيحة لا تفوت الفرصة... افتح النافذة وأطلق لنفسك العنان للاستمتاع بكل شيء... خذ نفسا عميقا تأكد أنه سيبدد كل خمول نومك السابق... أخرج يديك ودعها تحاكي المطر... حقا انك ستولد من جديد بل وسترجع طفلا لا يبالي بما سيقوله عنه الآخرون، وبذلك ستسبق الكثيرين في تحقيق حلم العودة إلى الطفولة!

سنغافورة لا تختلف في دفئها وتقلباتها الجوية عن بحريننا الحبيبة، فبإمكانك أن تعيش الفصول الأربعة في يوم واحد كما هو حالنا هنا... فالآن مطر غزير يبللك ويغمر أراضيها... وبعد قليل شمس ساطعة كما هي شمس البحرين التي فقدنا إحساسنا بجمالها...

ستقولون إنها مبالغة... أو يعقل أوجه الشبه بين الدولتين إلى هذا الحد؟ سأقول: نعم، هما متشابهتان في الشمس بعد المطر ولكنهما مختلفتان تماما في الأرض بعد المطر! كيف؟ في سنغافورة تعيش فصلا كاملا وعندما يريد له الله أن ينتهي ليبدأ فصل جديد فإن معالم الفصل السابق كلها تختفي فاسحة المجال لقصة جديدة وأجواء أخرى تنسيك أنه قبل دقائق معدودة كنت تحتمي بمظلة من المطر الغزير الذي يعزف أعذب ألحانه على مظلتك وعلى شوارع سنغافورة... لكننا في البحرين تتبدل عندنا الفصول ويذهب يوم وتأتي أيام ونحن مافتئنا نحيا في الشتاء وكأنه جزء من موروثاتنا البالية التي مازالت تعشش في أدمغتنا... فالشوارع الرطبة، بل الغارقة في بحيرات المطر (أو شيء آخر لا أدري، فالمطر يسقط عندنا بالتفق) لا تملك القدرة على مغادرتنا إلا بعد عقاب شديد من شمسنا الحارقة يؤنبها لأيام قد تطول وقد تقصر بحسب رأفتها بنا وقدرتها على مغالبة هذه البحيرات!... يبدو أن كل من يخطو على هذه الأرض تتعلق روحه بها فلا ينوي مغادرتها، حتى مستنقعات الأمطار ارتأت السكن في أرض الخلود لتبقى خالدة!

وإن أردتم مقارنة الأمطار بين هاتين الجنتين ستلاحظون الفرق! هناك أمطار تشعر بصفاء مائها وتبادر فعلا إلى تذوقه... أمطار تملأ الدنيا بعبيرها عندما يمتزج ماؤها بوريقات ورودها وأشجارها... وهنا، إن سقط المطر سكنك الحزن وخشيت على نفسك منه وكأنه وبال عظيم لأن حبيباته اكتست بالسواد، وإن ضعفت نفسك أمام «البرد النادر» فشئت تذوقه فإنك تضرب أسداسا في أخماس وتروح وتجيء وكأنك مقدم على مغامرة خطيرة لم تدفعك لخوضها إلا جرأة في غير محلها... أمطار بدلا من أن نعدها نعمة نشكر الله تعالى عليها، بتنا نعدها نقمة!... نقمة على البيوت الآيلة للسقوط... نقمة على من لم يجد مسكنا بعد... نقمة على العارية جيوبهم وأجسادهم... نقمة لامتزاجها ببلاعاتنا فوا ويلاه من رائحتها التي تزكم الأنوف ويا ويلنا مما تولده لنا من مخلوقات لم تجد إلا أجسادنا عدوا لها ونحن في خبر كان! نقمة على سياراتنا التي أزحنا عنها الغبار للتو فحل محله «أسمنت مسلح» هذا إن لم يعجبها المنظر فيستطيب لها المكوث لساعات في «نقعة» المطر العميقة!

لا عليكم لنترك المطر ونعرج على الشجر... وحينها فقط سنأسف على بلد المليون نخلة! وحق علينا أن نبدل الجملة في كراسات أبنائنا لتطابق الواقع فنقطع عليهم الطريق لمغالطتنا ولنسميها «بلد المليون بناية ومصنع»! وإن فكر أحدهم في البحث عن رطب النخيل الأحمر والأصفر فلنقل لهم إنه موجود ومتوافر بكثرة أيضا، وها نحن نجمل به أرصفتنا وشوارعنا وإن تحول إلى تمر فتبدل لونه لا بأس من إبداله بطوب - عفوا - رطب جديد زاهي الألوان!

قلت لكم إن سنغافورة تزهو بطيورها المغردة... وأظننا أيضا نتميز بطيورنا التي باتت في توالد مكثف هذه الأيام، ولكن ربما طغت بعض هرموناتها على الأخرى فتحولت النوارس إلى غربان، ولكل زمن سلطان!

وسنتكلم عن البحر، وهنا لن أعقد مقارنة لأنه لم تتح لي فرصة زيارة بحر سنغافورة ولا أعلم أساسا إن كانت تملك بحرا أم لا ولكن بإمكاننا تخيله ونحتفظ بذلك في مخيلتنا حتى لا نتهم بزور الكلام... ولكني سأستفرد بوصف جمال بحرنا الأخاذ... بحرنا الذي من جماله طمع فيه الطامعون فسارعوا إلى استعماره وأنزلوا فيه أسلحتهم وعدتهم وعتادهم، وتمكنوا من ذلك بسهولة كوننا شعب مسالم ليس لنا في البحر طين! استعمروا حتى هواءنا فما عدنا نستنشق إلا نفاث دخان المصانع وأبخرة المدافن، الذي أخذت من صحتنا مأخذها... وبقينا نحن نسترجع الذكريات ونردد «البحرين سنغافورة الخليج»

إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً