العدد 799 - الجمعة 12 نوفمبر 2004م الموافق 29 رمضان 1425هـ

ما بعد غياب الأسطورة!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لآماد طويلة مقبلة سيظل ياسر عرفات، بطل الاسطورة، بل هو الاسطورة نفسها، بمكوناتها الكاملة، تراوح ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الصورة ونقيضها، ما بين الحلم والوهم... ومثلما تلمع الاسطورة في البداية كالبريق، تراوغ في النهاية كالسراب.

ما بين هذا كله وذاك، عاش عرفات متربعاً على عرش أقدم حركة تحرر وطني في العالم، مازالت حتى اليوم تقاتل طلبا للحرية والاستقلال ودفاعا عن السيادة والكرامة، وحين داهمته النهاية التي لا مفر منها ولا مهرب، أبى أن ينتهي في صمت واهن، لكنه أصر على ان يصوغ عند النهاية دراما انسانية ناجحة، حتى وهو بعيد عن أرض الحلم الدرامي الذي طال انتظاره.

بغياب عرفات عن الساحة الفلسطينية والعربية والدولية يسدل الستار على عصر الآباء «البطاركة» العظام، قادة الانتفاضة الانسانية التحررية الكبرى، ضد الاستعمار والاستغلال والظلم والابادة العنصرية، طلبا للاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية، فقد سبقه عبدالناصر، ونهرو، وتيتو، ونكروما، وشواين لاي، وسوكارنو، وسيكونوري، ولم يبق بعد عرفات الا نيلسون مانديلا، بعد أن أَفَلت النجوم الذهبية لذلك العصر الزاهي الأقرب الى الاساطير!

ومثل كل الزعماء الكبار، حمل عرفات «كاريزما» غلابة، ذلت تأثير هائل على المسرح السياسي، منحته قدرات خاصة، وتحديدا القدرة الفائقة على استقطاب شعبه وتوحيده حول كلمته وقراره والقدرة الهائلة على الجمع بين الاضداد والمزج بين المتناقضات، وكم في الساحتين الفلسطينية والعربية، من أضداد ومتناقضات، لكنه في كل «مزنق أو مخنق» كان يمرق كالسهم نافذا خارجا بقضيته.

بين الموت والهروب من الموت، نسج القدر جزءا رئيسيا من أسطورة عرفات الدرامية، من حصار الى حصار أفلت وعاش، حوصر في حوادث سبتمبر/ أيلول وأفلت في عباءة عربية، وحوصر في لبنان وأفلت على سفن فرنسية في حراسة مصرية، وحوصر بين الرمال والضواري في الصحراء الليبية حين سقطت به الطائرة، وعاش وأفلت، وحوصر أخيرا في رام الله - على أرض وطنه لأول وآخر مرة - لما يزيد على ثلاث سنوات تحت القصف والتهديد والتجويع والحقد الشاروني الرهيب، لكنه للغرابة أفلت من قبضة شارون، وخرج عبر الأردن الى بلاد الفرنجة ليموت بعيداً عن الحلم الاسرائيلي باغتياله بالرصاص.

لكن من لم يمت بالرصاص مات بغيره... بالسم القاتل الذي حير الأطباء من كل شكل ولون، وكأنما أراد ان يكرر جملته الشهيرة، الفلسطيني مثل طائر «الفينيق» يخرج محلقا في كل مرة من وسط النار والدمار، صاعدا الى ذرى الآفاق... لكن ما كل مرة تسلم الجرة!

ايديولوجيته، يمكن تلخيصها في المبادئ الرئيسية لحركة التحرر الوطني في العالم، تحرير الأرض من المستعمر وتخليص الوطن من الاستغلال، وفي سبيل ذلك فإن السلاح في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى، هكذا فعلها عرفات حين وقف على منصة الأمم المتحدة شارحاً للعالم آنذاك حقيقة قضيته الوطنية.

سياسته، يمكن تلخيصها في الكلمة المركبة «لعم» وأظن أنها اشتقاق عرفاتي فلسطيني صرف، تجمع بين لا الرافضة ونعم الموافقة، وعلى أجنحة لعم هذه كان عرفات دائما فوق شباك الصيادين وكمائن الاصدقاء ومخابئ الأعداء، فمثلما عانى الحصار والمطاردة، قاسى ايضا الخلاف والانشقاق ليس فقط من أقرب زملائه، ولكن ايضا من العواصم العربية الكثيرة، ومن جانب زعماء كبار المكانة والمكان، اتفق أحيانا واختلف - في حماية لعم - مع جمال عبدالناصر والسادات وحافظ الأسد وبومدين والقذافي وصدام والملك الحسن والملك فيصل ثم فهد، لكنه ظل يسافر من عاصمة عربية غاضبة الى أحضان عاصمة مرحبة برشاقة برغماتية كان يحسده عليها كثيرون كانت برغماتيته جزءا من اسطورته!

شرعيته، اكتسبها من شرعية الثورة التي أشعلها وقادها مع بعض زملائه الذين سقط بعضهم في الطريق، الا أنه ظل صامداً غير آبه بالمخاطر والتهديدات التي طالما أرقته حين كانت تهب عليه من داخل البيت، طالبة الانقلاب مرة، ومطالبة بالاصلاح مرات، بعد ان غرس فساد الحاشية جذوره من حوله.

وحين استمع لصوت الاصلاح فجرب الانتقال من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية - عقب عودته الى غزة - لم يستطع التأقلم مع هذه المتغيرات التي كانت تعني ضمن ما تعني تقليص بعض سلطات الزعيم، لصالح سلطات الدولة والمؤسسات!

ومن الواضح ان هذه كانت أخطر نقطة ضعف في عرفات، وفي كل زعيم تغريه الكاريزما الشخصية بالتفرد والانفراد بالسلطة والقرار وربما المال الى جانب السلطة المطلقة، وقد فعل عرفات في حياته بعض هذا كله، اقتداء بزملائه العرب في الزعامة وتقديرا لبيئته وثقافته العربية، التي تخصصت في عبادة الزعيم وطاعة الأب شيخ القبيلة كبير العائلة في السراء والضراء.

ولعلنا نذكر حدة الأزمات المتتالية التي نشبت داخل القيادة الفلسطينية، بسبب تكدس المسئوليات وتراكم السلطة وتقييد السياسة في يد الزعيم عرفات، بينما معظم من حوله، وفي كل العالم يطالبونه بتوزيع المسئوليات والفصل بين السلطات، ليس فقط انتهاجاً للاصلاح الديمقراطي ولكن أيضا احتراماً لسنة الحياة وتقدم السن، واشراكاً للشعب الذي صنع الثورة وقدس الزعيم.

وها هي دراما سيرة الزعيم عرفات الزاهية على رغم ما فيها من ثقوب، تقدم إلينا مرة جديدة، الحقيقة المرة داخل الاسطورة الجاذبة البراقة فحين تميل الاسطورة نحو الذبول، يكتشف الناس، ان الزعيم الكاريزمي هو وحده الذي يستقطب كل الاقطاب ويرأس كل الرؤساء ويحمي كل الأنباء وبالتالي في يده الأمر والنهي، ينفرد وحده، من دون معقب بكل القرارات والسياسات والسلطات والتمويلات ولا يقبل الخروج على طاعته أو عصيان أمره، على رغم تواضعه بالتظاهر بقبول الرأي المخالف سماحة وعفوا، وتعظم في نظره حكمته المطلقة، جنبا الى جنب مع سلطته المطلقة، من دون ان يفكر في انه مثل كل البشر من البداية الى النهاية ربما يستبعد حتى فكرة الموت، فيشك ساعة الوهن في أقرب من حوله، الذين يتأهبون لوراثته!

وبسبب أمراض الاسطورة الكاريزمية التي تملكت بعض زعمائنا، عانت شعوبنا طويلا وكثيرا من ملخص الحكاية «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» ولاتزال تعاني أمراض الاستبداد والفساد، يموت الزعيم ويترك وراءه ميراثاً معقداً بائسا يتنازعه ورثة وخلفاء أشد بأسا وتعاسة لأن الزعيم بنى مجده وقوته هو، وفي المقابل ضعفت المؤسسات وتراخت فكرة الدولة وشاخ مشروعها الوطني قبل ان يولد، نام الزعيم وربما مات فوق كومة من القش!

والمؤكد ان هذا الكلام لا ينصب على حال فلسطين وحدها ولا نعني به الزعيم الكاريزمي عرفات بذاته لكن هذه حال مرضية تشخص أعراضها المنتشرة للأسف في الجسد العربي العليل وعلته في الدولة القبيلة، وفي الزعيم الأب، وهي نقيض للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، التي يطالب المصلحون العرب بإقامتها على أسس دستورية واضحة، تجنباً لاضطراب الدولة حين يغفو الزعيم فإن غفا غفوة النهاية يتركنا هكذا في «حيص بيص» لأنه أخذ معه اسطورة الزعامة، من دون ان يورثها لخلفائه ربما عامدا متعمدا لكي لا يرثه خلفاء على هيئته وصورته، ليظل هو مصدر النور والالهام بعد الأفول ليحكم الاحياء من قبور الاموات!

هكذا يقع الفراغ، وعلى وقع رجع الصدى، يبحث الباحثون عن خليفة للزعيم!

على رغم كل ترتيبات جمع الشمل داخل البيت الفلسطيني المحزون على رب البيت ورمز القضية الفلسطينية، الذي أحبه واحترمه مخالفوه ومعارضوه، قبل مؤيديه ومناصريه، فإن الإدارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية تشغلان نفسيهما سراً وعلناً، بالبحث عن خليفة لعرفات، يكون محاورا ومفاوضا وشريكا مقبولا.

والمعنى الصريح أنهم يبحثون عن شريك مقبول من جانبهم أي يقبل ما هو معروض اسرائيليا، مقبول أميركيا، مرحب عربيا، بعد ان ظل الزعيم عرفات، من وجهة نظرهم، عقبة كأداء في طريق التسوية الشارونية، محافظا بعناد وصلابة على مبادئ الثورة وثوابت القضية الفلسطينية، وخصوصاً تحرير الأرض المحتلة، واستعادة القدس واقامة الدولة المستقلة، وتنفيذ حق عودة اللاجئين.

وبقدر ما عاقبت أميركا و«إسرائيل» عرفات وحاصرتاه داخل مبنى صغير في رام الله لأكثر من ثلاث سنوات، وفرضتا عليه العزلة والجوع وتعمد الاهانة، ما انعكس بشكل مباشر على نفسيته وصحته، بقدر ما ازداد الشعب الفلسطيني المحبوس داخل معزله الأكبر تحت القتل والتدمير الاجرامي، اعجابا بصلابة زعيمه وعناد رئيسه دفاعاً عن حلم الدولة، أو دولة الحلم.

هكذا غفر هذا الشعب الصابر المجاهد، لعرفات كل أخطائه بما فيها انفراده بالقرار والسلطة وتوزيع الثروة، ورأى في مجرد عناد عرفات ورفضه التنازل عن جوهر قضيته الوطنية، سبباً لغفران الاخطاء مهما عظمت لكن شارون وبوش لم ولن يغفرا أو يتسامحا معه، فقد كان وحده وهو المحاصر المعزول، رمزاً لتحدي كل سياساتهما وإرادتهما... وكل رموز التحدي يجب ان تكسر! الآن، يبحثون بمساعدات عربية نشيطة عن خليفة يعيد ترتيب البيت الفلسطيني على ذوق ومقاس «إسرائيل» وبرضى أميركا ومباركة كل العرب... وأظن ان كل الخلفاء المطروحين لا يحملون كاريزما عرفات واسطورته من دون انتقاص من الكفاءة الذاتية لأي منهم، لكني أظن ايضا، وليس كل الظن إثم، أن بعضهم على أتم استعداد للتجاوب مع المطالب الاسرائيلية الاميركية والضغوط العربية، والخوف كل الخوف من أن يبدأ التجاوب بالمرونة وينتهي بالتسليم. والتسليم في جوهر القضية الفلسطينية أقدم حركة تحرر وطني في عالم اليوم، هو كارثة بكل المعاني، كارثة ان غلفتها تسويات واتفاقات، فانها تمهد لعاصفة لاهبة في المنطقة برمتها تثير الفتنة الكبرى والفوضى الشاملة، وفي الحالين التسوية او الفوضى تظل «إسرائيل» هي الرابح الأكبر بعدما سقط من أمامها رافض التسوية الشارونية، وكابح الفوضى والفتنة الفلسطينية ومتحدي الإرادة الاميركية، ومقاوم الابتزازات العربية.

ويظل، قبل ذلك وبعده، رهاننا على الاسطورة، طائر الفينيق الفلسطيني، الخارج ملتهباً من وسط النيران محلقاً في الآفاق حاملاً الحلم الذي لا يقتله السم!

خير الكلام: قال ابراهيم ناجي:

لا رعى الله مساءً قاسياً

قد أراني كل أحلامي سُدى

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 799 - الجمعة 12 نوفمبر 2004م الموافق 29 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً