العدد 799 - الجمعة 12 نوفمبر 2004م الموافق 29 رمضان 1425هـ

عالم آخر

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

ألا ينتابكم الشعور بأننا نعيش أحياناً في عالم آخر؟ في هذه البقعة الصغيرة من العالم، تبدو الأمور أسيرة دائرة محكمة لا تغير مسارها، صنعت لنا عالماً صغيراً مليئاً بالطموحات والأحلام المؤجلة والكثير من الأوهام أيضاً.

عندما نسافر إلى بلدان أخرى، نعود محملين بشعور فريد من نوعه: أين نحن من كل ما نلمسه وما نراه في البلدان الأخرى؟ نشعر أننا نعود إلى عالم آخر منغلق على نفسه، لكن مهلاً ثمة مفارقة كبرى في الأمر.

نحن متصلون بالعالم بكل الوسائل، وليس هناك أفضل من البحرينيين في متابعة كل الدقائق والتفاصيل والحوادث لحظة بلحظة من وسائل شتى. شكراً للقنوات الفضائية وشكراً للانترنت، فنحن أكثر الناس الذين يملكون خاصية التباهي بمعرفة كل شيء، لكن لا شيء يتغير في حياتنا. ونحن أكثر الناس الذين نصف أنفسنا دوماً بأننا مثقفون، لكن ثقافتنا تبدو على الدوام فاقدة للذكاء العملي الذي يحولها إلى قيمة حقيقية في حياتنا. ونحن أكثر الناس الذين ندعي أن معارض الكتاب لدينا تشهد اقبالاً كبيراً لأننا مازلنا نعتقد أننا شعب قارئ، لكن في لحظات ما يتبدى لنا جلياً أن كل هذا من الأوهام التي نسجناها عن أنفسنا وبتنا أسراها.

عندما تذكر مصر مثلاً، لن تلقى أكثر من تعليقات مقتضبة عن صور لمصر في أذهاننا نتوارثها دونما بحث أو تمحيص يقتضيه تتابع الزمن كأبسط شرط. مصر؟ ماذا يرد في أذهانكم إذا جاءت سيرة مصر مثلاً في حديث؟ الازدحام البشري والفهلوة والفقر، ولدى نخب المثقفين والسياسيين: كامب ديفيد والعلاقات الخاصة مع أميركا؟ أو الصراع بين الحكومة والمتطرفين.

ثمة صورة غائبة عن مصر حتى لدى أكثر أولئك الذين يتسمرون أمام الشاشات بحثاً عن التطورات والحوادث المتسارعة ويديرون مؤشرات الراديو وأجهزة التلفزة كي لا يفوتهم أي خبر استعداداً لحديث المجالس ونقاشاتها التي لا تنتهي.

ثمة مجتمع مدني ينمو في مصر بات يستدعي التوقف والانتباه، منظمات أهلية تنشط في كل ميدان لا في السياسة وحقوق الإنسان فقط، بل في كل الميادين، الاجتماعية والثقافية وتلك الميادين المتعقلة بتطوير المجتمعات المحلية وتحسين أحوال السكان. إذا أردتم شيئاً من التفاصيل فاسألوا وابحثوا عن تجربة منطقة «جبل المقطم»، وتحديداً كيف عالج نشطاء مدنيون من الشبان والشابات مشكلات أحياء الزبالين المشهورة في تلك المنطقة. ستذهلكم التفاصيل: إعادة تدوير المخلفات، توفير برامج لتطوير الحياة في تلك الأحياء من خلال موارد ذاتية، بناء مدارس من هذه الموارد وتطوير مرافق الخدمات وإنشاء مرافق لم تكن موجودة في الأصل. كل هذا بفضل نشاط شبان وشابات في منظمات أهلية تطوعية.

أظن أنكم تنتظرون العبرة الآن؟ العبرة الأساسية هي «النمو الطبيعي والتدرج والنفس الطويل». أعرف أنها كلمات تتردد كثيراً، لكن ألا ترون معي أين يكمن الفارق؟ الفارق الجوهري بين «هناك» و«هنا» هو في القدرة على تحويل الكلمات إلى واقع حي وملموس وأفضل. لماذا يملكون تلك القدرة ولا نملك نحن شيئاً من هذا؟ لإنعاش ذاكرتكم، تذكروا فقط تلك المقالات والتحقيقات والموضوعات التي ظلت تنشر على مدى سنوات طويلة لدينا عن «أزمة العمل التطوعي». لا تبحثوا كثيراً ولا تجهدوا أنفسكم في البحث: الأزمة فينا نحن، في العقليات وفي الذهنيات، فحتى اليوم لا يوجد تعريف لأزمة العمل التطوعي سوى أن الناس فقدت دافع مساعدة الآخرين والمجتمع، لا أحد يريد أن يعطي من وقته للآخرين.

وفيما يعمل الآخرون على الأرض، فإن أذهاننا شاخصة إلى السماء ننتظر الحلول من هناك. افهموها مثلما تشاؤون، لكن ليس لدي تعريف للعجز والضحالة أكثر من هذا الذي تشاهدونه أمامكم كل يوم وتطالعكم به صحفنا الغراء. عندما تسمع عن الخلاف على بيان مجلس النواب بشأن الفلوجة، يمكنك إدراك شيء من المشكلة، ووحدها المقارنة بين ما نعرفه عن رصانة العمل البرلماني ومشاجرات الأحياء ستدفعنا للأسى. وعندما تطالع التصريحات والبشارات في الصحف والكيفية التي نتعامل بها مع قضايانا، ينتابك شعور بأن هذا المجتمع الصغير هو محور الكون. فالجميع يفتقد سمة «التواضع»، أما الكلمات فتشعر بأنها ليست جديدة وأنك قرأتها في مكان آخر وفي سنوات أخرى سبقت.

المشكلة فينا نحن: غارقون في الايديولوجيا بما يجعل كل المفاهيم تتشظى بما فيها تلك الأساسية: المواطنة، الديمقراطية، عقدنا الاجتماعي. الايديولوجيا لا تدفعنا إلى شيء سوى أن نكون دوماً في حال احتراب نفسي وبما يباعد بيننا وبين الذكاء العملي. لا نملك الابداع... لا لأن هناك من يحاربه أو يعوقه، بل لأننا أيضاً بتنا أسرى التنظير والصراخ.

آه قبل أن أنسى، كل عام وأنتم بألف خير

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 799 - الجمعة 12 نوفمبر 2004م الموافق 29 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً