العدد 848 - الجمعة 31 ديسمبر 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1425هـ

هل بدأ العد التنازلي لإلغاء الانتخابات في العراق؟

قراءة في المشهد العراقي بعد مستجداته الأمنية

محمود السيد الدغيم comments [at] alwasatnews.com

-

هل بدأت الساحة العراقية تتوجه نحو بؤرة أمنية لا يمكن الخروج منها من أجل إرغام القوى الأساسية في العراق مختارة أو مكرهة على التخلي عن خيار الانتخابات في نهاية شهر يونيو/ حزيران؟ فحصول الانتخابات يعني نهاية الاحتلال الأميركي نظريا، وبالتالي: فثمن حصول الانتخابات ووصول القوى الأساسية التي تمتلك تحريك الشارع العراقي باتجاه استقلاله عن المحتل إلى سدة الحكم باهظ جدا، وهذا ما لم تعه بعد القوى الأساسية التي تتجه إلى الانتخابات بسرعة صاروخية من دون تأمين مواقعها من الاختراقات الأمنية والسياسية، ومن دون مراعاة واقع الحصار والطوق الذي يفرضه الأميركان على العراق.

القوى الأساسية في العراق تعد عدتها إلى الانتخابات بقوة في مشهد داخلي خاص بها، وكأن كل شيء على مايرام، لكنها تنشغل عن معالجة الواقع الخارجي وإشكالاته التي قد تعقد من العملية السياسية في العراق، وتجعل منها مستحيلة مع ازدياد بؤرة التوتر الأمني ضراوة، وتلقي بتبعات هذه المشكلات على الحكومة المؤقتة، وكأنها غير معنية بها، وهنا مكمن الخطورة.

التوتر الأمني الحاصل في العراق في درجة استهدافه لا يخص فئة دون فئة أخرى، وكلما اقترب من الانفلات، كلما أصاب مقاتل كبيرة وشخصيات سياسية ذات وزن ثقيل، مع إمكان تغييب المسئولية السياسية عن هذه الجرائم نتيجة تعدد أدوات الإجرام، التي تنتهي كل خيوطها في يد المحتل الأميركي.

إن ترك معالجة هذا الواقع العراقي المأزوم أمنيا بيد الحكومة المؤقتة التي هي جزء من اللعبة السياسية في العراق في شخوصها ومؤسساتها، ولها طموح انتخابي كما للقوى الأساسية، معناه السماح باحتكار اللعبة السياسية بيد هذه الأطراف الماسكة بأسباب القوة حاليا، في وقت تدخل فيه الأطراف السياسية لعبة انتخابية قد تغير معالم القوى السياسية في العراق باتجاه القابعين في الظل إلى الآن، ما يجعل الحكومة المؤقتة تسعى إلى تأزيم الوضع السياسي بغية تعقيد العملية السياسية وتغيير معالم العملية الانتخابية من خلال ما تمتلكه من سلطة ونفوذ.

إن المطلوب من القوى الأساسية ألا تحضر للانتخابات، وتنسى الواقع الخارجي المعقد، فهذه السرعة الصاروخية في المضي قدما في الانتخابات قد تكون من أهم وسائل الاستهداف المباشر لعناصر هذه القوى ورموزها الفاعلة.

إن محاولة الاغتيال الأخيرة التي حاولت استهداف رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عبدالعزيز الحكيم تعطي مؤشرا خطيرا على إمكان تحقق هذه الجدلية على الأرض، فالواقع العراقي غير محصن أمنيا، والمسئولية عن الجرائم التي ترتكب بحق الشعب العراقي غائبة أيضا، ما يعني أن قرب الانتخابات سيؤدي إلى اغتيال رموز كثيرة ممن يحضرون للانتخابات المقبلة بعقلية باردة.

هذه العقلية الباردة تثير الكثير من الحساد والمتربصين والحاقدين، فضلا أنها في دائرة التأثير السلبي - وإن لم يكن مقصودا - لا تبعث برسائل طمأنة إلى الكثير من القوى السياسية المتضررة على مستوى الامتيازات والمكاسب من حصول الانتخابات في موعدها المقرر، وهذه خطورة أخرى، لا تقل خطورة عن عدم معالجة الإشكالات الأمنية التي يفرزها الواقع الخارجي.

وهنا، يجب لفت الانتباه إلى السرعة القصوى التي اغتيل بها رمز تاريخي مثل السيدمحمد باقر الحكيم قبل أن ينجز أهدافه الوحدوية في الشعب العراقي، فالسيدالحكيم رحمه الله كان من المدرسة الوحدوية ومن أنصار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان قادرا عمليا - لولا أن اغتالته اليد الآثمة - على محاكاة عناصر وأطياف الشعب العراقي كافة، وإيجاد مرجعية جامعة متفق عليها، ولهذا تم اغتياله قبل أن ينجز مشروعه، فكان أول اللاحقين بربه بعد رحلة من النضال الطويل مع نظام صدام، وكان اغتياله بداية الانهيار للمشروع السياسي الذي يمكن أن تكون له معالم واضحة ومهضومة مع وجود الاحتلال، باتفاق القوى السياسية على أجندة سياسية موحدة في مرجعيته الجامعة.

قريب من هذا الجو، ولكن في الدائرة المقاومة، ما قام به السيدمقتدى الصدر وتياره المسمى بالتيار الصدري، فالسيدمقتدى انتبه إلى ضرورة احتواء الأطياف السياسية كافة، فحصد تضامن المرجعيات السنية في العراق حين كانت محنته في النجف، وأرسل رسائل تضامن واضحة حين تم الهجوم على الفلوجة، إلا أن هذا التضامن البيني ليس ذا دلالة كبيرة، فشخصية مقتدى محاربة في الوسط الشيعي، وخيارها المقاوم على رغم صحته استراتيجيا، ودعمه للعملية السياسية من خلال إضعافه للمحتل، تم تقويضه، ونتيجة لكون المشهد العراقي أكبر في تعقيداته من طاقة وتحمل التيار الصدري، ضاعت بوصلة الخيارات الصدرية أمام زحمة الخيارات وتضاربها.

من كل ذلك، فإن موقف القوى الأساسية الشيعية في العراق من الاعتداء الوحشي على الفلوجة على رغم وجود بعض العناصر داخلها ممن يعقدون الوضع أمنيا، لم يستطع أن يوجد إطارا عراقيا جامعا يتفق على خيار سياسي بعينه، فهو قد ضرب خيار الشهيد محمدباقر الحكيم في إيجاد عراق جامع، وفرز العملية السياسية على أساس طائفي، كما ضرب خيار مقتدى الصدر لكونه لا يملك الغطاء المرجعي الكافي، واتضح هذا الخلل جليا في الإصرار على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، وهو خيار سليم 100 في المئة، ولكنه محاصر بظروف سياسية وأمنية صعبة، وفي الدعوة إلى تأجيل الانتخابات، وهو خيار خاطئ وتدميري، إلا أنه في الكثير من تداعياته يعكس الهواجس التي جاءت جراء اختلال التوازن في تعامل القوى السياسية مع بعضها بعضا.

هناك حقيقة أخرى يجب أن يفهمها العراقيون أولا، ومن يحبون الشعب العراقي ثانيا، وهي ليست داخلة في ضرب الخيارات السياسية للشعب العراقي بمقدار ما تعنى بتحديد الاستراتيجيات، وتحديد العدو من الصديق، وهي ضرورة ألا يكون الظلم والاضطهاد في عهد النظام السابق على يد صدام وزمرته سببا لقراءة الواقع السياسي ومعادلاته بصورة مقلوبة، وليمل كل طرف إلى من يميل، وليمارس الآخر الظلم والطائفية والاعتداء، ولكننا لن نمارس الظلم والاعتداء والطائفية، فهم ليس قدوة لنا في ممارساتهم وسلوكهم.

إن الواقع يقول: إن أميركا ليست صديقة الشيعة في العراق، وإنما صديقة مصالحها الاستراتيجية وخططها التي تريد السيطرة من خلالها على المنطقة، وهي في هذه الخطط مستعدة لرسم طرق التفافية ومنحنيات صعبة في الواقع السياسي لتصل إلى مآربها.

الواقع يقول أيضا: إن هناك طائفيين ومتعصبين وجاهليين وظلاميين ينفذون مآرب أميركا في العراق على أساس من التعصب الديني والانحياز إلى المصالح الشخصية، فيقومون بالتفجيرات والاغتيالات، وسينفذون الكثير منها في الأيام المقبلة، وهؤلاء لا علاقة لهم بشيعة العراق ولا سنته، وإنما هم مرتبطون بأفكارهم الهدامة، ومرتبطون بأميركا مباشرة، فلا ينبغي أن يكون الظلم سببا لظلم مماثل، وإلى انحسار الرؤية على الطائفة ومصالحها، وترتيب هذه المصالح على أساس الوجود الأميركي في العراق، فهذا خلاف الرؤية السياسية الاسلامية والمرجعيات في مقاومة الظلم والظالمين.

أخيرا: إن محاولة اغتيال السيدعبدالعزيز الحكيم تعد مؤشرا خطيرا على وجود مخططات أمنية بشعة تستهدف رموزا بعينها، ومن ضمنها استهداف المرجع الشيعي الأعلى السيدعلي السيستاني، بغية تقويض الانتخابات وإلغائها، والتمكين لعناصر الحكومة المؤقتة في حكم العراق بالحديد والنار، إلى أن يجد الأميركان فرصة لإجراء انتخابات مهجنة تكون فيها القوى الأساسية غير قادرة على خوضها نتيجة استهداف عناصرها الأساسية أمنيا، وهنا يجب لفت الانتباه إلى مجموعة نقاط خطيرة:

أولا: هناك درجة من الاندفاع الشديد من القوى الأساسية نحو الانتخابات، ما يعني أن تأجيلها وفق الظروف الحالية غير ممكن، لأن ذلك سيؤدي إلى تقويض الحكومة الحالية، وإيجاد اصطفافات جديدة، قائمة على مشروع مقاومة الاحتلال، ولهذا ستكون الاغتيالات هي المنفذ الذي سيمكن الاحتلال من تنفيذ مشروعه في العراق، عبر تعميم الخيار الأمني بعد خلو الساحة من الرموز السياسية القادرة على مهمة إنقاذ العراق، وتوجيه الخيار السياسي بالاتجاه الصحيح مهما كانت المؤاخذات عليه.

ثانيا: إن فشل محاولة اغتيال عبدالعزيز الحكيم يجب أن ينبه القوى الأساسية في العراق إلى التصدي لمحاولات الاغتيالات التي ستتكرر في الأيام المقبلة، وخصوصا أن أميركا لن تستطيع تنفيذ مشروعها في العراق من دون تعميم الفوضى الأمنية وإنفاذ الاغتيالات على مستوى الرموز الكبيرة، بعد أن تعرت سياسيا مع اقتراب موعد الانتخابات، وتورطها مع هذا الموعد، وهذا لن يكون ما لم تقم القوى السياسية الأساسية بتحريك أجهزتها الأمنية لحماية هؤلاء الرموز، ومنها "منظمة بدر" التابعة للمجلس الأعلى، فالاعتماد على الأجهزة الأمنية في الحكومة العراقية المؤقتة مع كونها جزءا من المعادلة السياسية والانتخابية الحالية، فيه خلل كبير، وإهمال لواقع خارجي "سياسي وأمني" معقد، كان من المفترض معالجته منذ البداية.

مع ذلك: ففشل محاولة اغتيال السيدعبدالعزيز أعطت مؤشرا مهما على ضرورة القيام بالاحتياطات الأمنية اللازمة، وصولا إلى موعد الاستحقاق الانتخابي، من دون أن يتحقق غرض الأميركان باغتيال أقطاب اللعبة السياسية في العراق، فإذا نجحت القوى الأساسية في ذلك، سيكون لها ما تريد من تحرير العراق، لأن الخناق ضاق على الأميركان، ولابد أن يلعبوا لعبتهم الأمنية القذرة ليسيطروا على العراق، وينفذوا مشروعاتهم التي جاءوا من أجلها.

ثالثا: هناك حاجة إلى إرسال رسائل طمأنة إلى الأطياف السياسية التي تعارض الانتخابات بأن حقوقها السياسية محفوظة تحت مظلة عراق موحد، ولا ينبغي القبول بالكوتا السياسية، لأنها ليست حلا بمقدار ما تكرس الخلاف على المصالح، فالحل أن تكون القوى الأساسية من منطلق الغالبية مظلة للشعب العراقي وحفظ حقوق جميع طوائفه، بأن تقوم بنفسها بتحريك هذا الإطار المرجعي عبر تحركات ميدانية، قادرة على احتواء جميع الخيارات المشروعة التي تهدف إلى طرد المحتل، وأن توجد إطارا سياسيا جامعا قائما على هذه التطمينات في ظل استبعاد خيار التأجيل، الذي يخدم الأميركان فضلا عن بعض دول الجوار الذي تغذي الطائفية في العراق خوفا من العملية الديمقراطية فيها.

قد تبدو فكرة إقناع المقاطعين بالمشاركة صعبة، لأن الجميع تقدم في خياراته، ولم يعط فرصة للتراجع عنها، إلا أنها الخيار الوحيد الذي يجب على القوى الأساسية التي تجهد نفسها من أجل تحقيقه، فالتقدم الصاروخي باتجاه الانتخابات من طرف واحد على رغم صوابيته، كانت ضريبته هو الخلل في ميزان القوى العراقية، وأهم ضريبة له أن فسح المجال لتدخل أميركي فيه من خلال فرض نظام الكوتا السياسية وتعميم الفوضى الأمنية، وفسح المجال لبعض دول الجوار أن تغذيه طائفيا، ويجب أن ترجع الأمور لنصابها

العدد 848 - الجمعة 31 ديسمبر 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً