العدد 848 - الجمعة 31 ديسمبر 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1425هـ

كيف يهرب المغاربة من قبلة الديمقراطية إلى أحضان البحر؟

هيئة الإنصاف والمصالحة بين التصالح مع الذات والبروباغندا

المصطفى العسري comments [at] alwasatnews.com

انشغل المغرب والمغاربة الأسبوع الماضي ببدء جلسات الاستماع المنظمة من قبل هيئة الإنصاف والمصالحة، والتي يراد لها وفق ما أعلن عنه مسئولو الهيئة تصالح المغاربة مع أنفسهم، أو بالأحرى مع النظام، وطي صفحات الماضي الأليم ممثلة في "سنوات الجمر والرصاص" التي دامت زهاء أربعة عقود.

وإذا كانت هذه الخطوة غير مسبوقة عربيا وإسلاميا، بل وحتى دوليا، باعتبارها تمت برعاية النظام نفسه الذي قمع واختطف وعذب واغتصب وانتهك، بعد أن عادت مؤسساته خصوصا "القمعية" منها للعمل وفق ما تقتضيه دولة الحق والقانون، عكس ما عرفته تجارب بلدان أميركا اللاتينية أو حتى جنوب إفريقيا والبرتغال التي عرفت الخطوة نفسها، خطوة التصالح لكن بعد تغيير النظام.

وإن كانت الخطوة المغربية غير مسبوقة، فإنها مع ذلك لم ترتق إلى المأمول منها، كما أنها لم تكن في حجم ومستوى تضحيات دعاة الديمقراطية على امتداد مرحلة حكم الحسن الثاني. فتشكيل لجنة الإنصاف والمصالحة أظهره الإعلام الرسمي والمؤسسات الحكومية كما لو كان "هبة ملكية محضة" أهداها الملك لشعبه، والعكس أن النظام في المملكة أرغم إرغاما - من قبل الحركة السياسية ممثلة في الأحزاب الوطنية التي مارست المعارضة على رغم كل التضحيات من داخل صفوف الشعب ولم تلجأ للمنفى - على أن يسلك الطريق الديمقراطي بفضل كفاح مرير وغير مسبوق في عالمنا العربي، ما جعل النظام ينصاع مع بداية التسعينات إلى إرادة الشعب للدخول في سلسلة مباحثات ومفاوضات، بدأت تثمر النجاح مع الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وتوجت بتشكيل حكومة من بين صفوف المعارضة، إذ تبنت المعارض الاشتراكي السابق المحكوم عليه بالإعدام، عبدالرحمن اليوسفي، أول رئيس وزراء لمرحلة التناوب.

حماية "أسماء" الجلادين

من السلبيات التي لوحظت في عمل لجنة الإنصاف والمصالحة أنها ألزمت من يريد الإدلاء بشهادته أمام الملأ داخل القاعة أو عبر محطات الإذاعة والتلفزيون المغربي أن يتكلم فقط عن معاناته من دون ذكر أسماء الجلادين الذين مازال بعضهم يمارس مسئولياته الأمنية في انتظار من يعطيه إشارة البدء لكي تقترف يداه ما سبق أن قامت به خلال فترة ما قبل تغيير 23 يونيو/ حزيران ،1999 وهو ما تبين بجلاء خلال المحاكمات التي أعقبت تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية إذ نكل بالمعتقلين مدانين وأبرياء، ومورست عليهم مختلف أصناف التعذيب من ضرب واغتصاب، هذا من دون الحديث عن الخروق التي تلازمت مع طريقة الاعتقال وتجاوز الفترات القانونية للحجز والتحقيق.

وإذا كانت الدولة ترى أنها عندما طلبت عدم ذكر أسماء جلاديها حتى يحال بين المغاربة والفتنة، فإن العكس هو الذي كان يجب أن يحصل فالمصالحة عادة تأتي بعد الإنصاف الذي يقتضي تعويض المتضررين ومحاسبة من أذنب في حقهم، ذلك أن ذكر أسماء المذنبين من الذين سمحت لهم أنفسهم أو أوامر من فوقهم باغتصاب مسجونيهم وتعذيبهم كان سيعتبر بمثابة فضحهم و"تجريسهم" بتعريتهم "أي تعرية أفعالهم" أمام المجتمع حتى يكونوا عبرة للمسئولين الأمنيين الحاليين الذين قد تأتيهم وفي غفلة من الزمن الأوامر بالتنكيل بمغاربة دافعوا عن حقوقهم سواء بالاعتصام أو بالإضراب أو بالاحتجاج وهو ما نراه بين الفينة والأخرى من حملة شهادات الدكتوراه المعطلين عن العمل، بدلا من أن يواجهوا بالتفاوض تطلق عليهم الداخلية قواتها لتكسير عظامهم وتأديبهم حتى ينصاعوا للواقع.

وما يثبت صحة هذا المعطى أيضا أنه وعشية بدء جلسات الاستماع تعرض الضابط السابق في الجيش المغربي والمعتقل السابق في معتقل تازمامارات السري المرزوقي للمساءلة من قبل أحد المسئولين الأمنيين عن تصريحات أدلى بها لقناة الجزيرة الإخبارية وهو ما يتنافى مع شروط الإفراج عنه العام .1991

قبلة الديمقراطية العربية!

من السلبيات الأخرى لضحايا العهد السابق أن الإعلام الرسمي وإن بث بشكل مباشر هذه الجلسات قد انصب تناوله للحدث على الاهتمام الإعلامي العربي والدولي، وكيفية تغطيته لهذا الحدث "الذي جعل من المملكة الشريفة قبلة للديمقراطية العربية والإسلامية"!

بل أن المتابع لمحطات الإذاعة والتلفزيون المغربية خلال الفترة الأخيرة يلاحظ كما لو كان عليها رئيس تحرير واحد، إذ اتخم المغاربة ببرامج تتحدث عن تجاوزات العهد الماضي، حتى ميعت هذه الخطوة، حتى أن الكثيرين اعتبروا الأمر لا يخرج عن كونه دعاية سياسية أو "بروباغاندا" موجهة للمسئولين في واشنطن وبروكسيل وللمؤسسات المالية الدولية.

اعتبارا من كل ما سبق فإن ما جرى ليس إلا تمثيلية، بعيدة كل البعد عن المعنى الحقيقي للإنصاف والمصالحة، وما هو إلا استثمار لآلام ومعاناة مناضلي تلك المرحلة من أجل أن تبدو المملكة أمام العالم أنها بلد ديمقراطي ودستوري، وأنها فعلا تصالحت مع مواطنيها، وواقع الحال يقول إنها ورقيا هي دولة الحق والقانون، إذ حرية الصحافة التي لا تجد حريتها إلا في انتقاد وزير الداخلية السابق إدريس البصري ومن معه، كونه حاليا من دون سلطة، ولكونه محل حقد من قبل زملائه السابقين في جهاز الداخلية والمخابرات، وتغض الطرف عن المسئولين الحاليين الذين يتاجرون بالبلاد وثرواتها ومستقبل أبنائها، وان هذه المؤسسات المنتخبة والانتخابات الدورية ليست إلا واجهة للاستعمال الخارجي، أما واقع الحال حسبما يؤكد الكثير من المغاربة فإنها "دولة بوليسية"، مواطنوها مهدورو الكرامة، شبابها يرمي بنفسه بين أحضان البحار للفرار من جحيمها بفعل التوزيع الظالم للثروات التي تحتكرها قلة من المغاربة على رأسها شركات متعددة ومعدودة في ملكية أركان النظام

العدد 848 - الجمعة 31 ديسمبر 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً