العدد 850 - الأحد 02 يناير 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1425هـ

التربية والتعليم بين قوسين

علي الغسرة comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا ينكر أحد حجم التحديات التي تواجه المربين في عصرنا الحاضر، وخصوصا في المدارس إذ قلة الإمكانات وكثرة الأعباء والضغوط الاجتماعية والسياسية التي تفرض على العاملين فيها العمل وفقا لمبدأ "ما لا يدرك جله لا يترك كله". وفي ظل هذه الظروف المعقدة من الناحية التنظيمية والإنسانية تسعى المدرسة للتوفيق بين طموحاتها كمؤسسة تربوية وبين واقع مخرجات التعليم الذي لا يتناغم مع أهدافها ومنطلقاتها.

وفي ظل هذا الاستقطاب باتت المؤسسة المدرسية في حال من انعدام الوزن تتقاذفها رياح مشروعات الإصلاح والتجديدات التربوية التي تهب عليها في كل موسم وفصل من فصول السنة السياسية. وعلى رغم صدق النوايا والمنطلقات، فإن واقع الحال في جميع مدارسنا يقول: إننا لم نعد نفهم هذه اللغة التي تجعلنا في حال طوارئ مستمرة من دون أن نتبين ما طريقنا؟ وما أهدافنا؟ وما المردود التربوي للعملية التعليمية بمدارسنا؟

وفي فورة هذا الحماس المفرط والقفز السريع من أجل الحصول على النجاح الموعود يتضح مدى الارتباك والحيرة التي يعاني منها العاملون في المدارس وهم يحاولون تطبيق هذه المستجدات والتي باتت كالمعلبات الجاهزة التي تصدر إلى المدارس بين الحين والآخر، ويصبح دور المدرسة كالمريض الذي يجب عليه أن يتقبل كل هذه الوصفات الطبية المتنوعة من دون دراسة ميدانية علمية لواقع المؤسسة المدرسية وأمراضها المزمنة!

وإننا إذ نثير هذه الأسئلة لا نشكك في النوايا المخلصة لمن يبتغي الإصلاح والتجديد، ولكن هناك فرق شاسع بين أن تكون هذه الإصلاحات نابعة فعلا من حاجات داخلية بالمدرسة وبين من يريد فرضها من الخارج من أصحاب اللعبة السياسية!

مدارسنا اليوم على مفترق طرق فهي إما أن تغرق في مشكلاتها الاجتماعية والتربوية والاقتصادية أو يقيض لها القدر من ينتشلها من هذا البحر اللجي المتلاطم ويقذف لها خشب النجاة حتى تستأنف رحلتها من جديد وبرؤية جديدة للتعليم والحياة، والزمن ليس في صالح من يزينون الأمور ويجملون الواقع بالأرقام والمشروعات والمهرجانات الثقافية الكاذبة، بل أصبحت المسئولية اليوم مشتركة يشارك فيها جميع أفراد المجتمع لإنقاذ المدرسة من كارثة حقيقية.

وبالإضافة إلى ذلك فالمدرسة لكي تستمر في البقاء فإن عليها أن تواجه تحديات المستقبل التي تهدد المدرسة فعلا وتبطل دعوتها كمؤسسة تربوية لا يستغني المجتمع عنها في عملية التنمية البشرية لإفراده من ناحية، والمحافظة على تراثه الثقافي والديني من التشويه والضياع من ناحية أخرى.

وفي هذا المجال يطرح التربويون ثلاثة سيناريوهات للمدرسة في المستقبل بناء على استقرائهم لمؤشرات بادت تلوح في الأفق وهي على النحو الآتي:

1- ازدهار التعليم الخاص.

2- موت المدرسة العامة.

3- انبعاث جديد للمدرسة العامة.

"1" ازدهار التعليم الخاص

يبقى هذا الاحتمال قائما وسيتعزز مع مرور الأيام مع ازدياد الوعي لأولياء الأمور بأهمية التعليم ونمو القدرة الاقتصادية في المجتمع بحيث يمكن لإفراده تعليم أبنائهم بواسطة تحملهم المباشر لنفقات هذا التعليم، إذ يوفر هذا النوع من التعليم الخيارات المتنوعة للتعليم الذي تريده الأسرة لأبنائها وتضمن جودة ما يقدم لهم من معارف وقيم ومهارات عن طريق المشاركة المباشرة أو المتابعة لما يجري في المدرسة. وإذ إن الفلسفة التي يقوم عليها نظام التعليم الخاص - في بعض المدارس - ترتبط بفكرة معايير الجودة التي تحقق أفضل الخدمات للمستهلك "ولي الأمر" وتشبع حاجاته المختلفة في تعليم أبنائه فإن خيار المدرسة كمؤسسة للخدمات سيبقى الحل الأمثل لكثير من أولياء الأمور خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار النقاط التي تثار بشأن المدارس الحكومية:

- محدودية الخدمات التعليمية التي تقدمها المدرسة العامة مقارنة بما يقدم في بعض المدارس الخاصة المتميزة.

- تدني المستوى التعليمي للطلبة وازدياد المشكلات السلوكية والتنظيمية في المدرسة العامة.

- غياب مبدأ المحاسبة والمساءلة في المدرسة العامة مما يضعف قدرة المدرسة على الاحتفاظ بمعلمين أو إداريين أكفاء لقيادة العملية التعليمية في صفوفها.

- تركيز السلطات الإدارية بيد مدير المدرسة مما يضعف قوة الولاء والإخلاص لدى العاملين في المدرسة وينعكس ذلك سلبا على أدائهم في الصفوف الدراسية.

- تبعية المدرسة العامة لنظام إداري هرمي صارم لا يسمح لها بالتطوير الذاتي ويجعلها أسيرة للإجراءات البيروقراطية، ويقتل لديها كل إمكانات التميز والابداع بذرائع مختلفة كحفظ النظام، والانضباط، وتجويد مخرجات التعليم.

- ضعف المصادر المادية والفنية بالمدرسة الحكومية ما يعوقها في توفير أنماط مغايرة للتعليم التقليدي.

- تأكيد البنية المعرفية للمادة الدراسية وإهمال الجوانب المرتبطة بتنمية القيم والاتجاهات والمهارات العلمية والاجتماعية والنفسية والتي تسهم بإعداد المواطن الكفء لدخول معترك الحياة في المستقبل.

- معايير النجاح عموما لا تقيس المستوى الفردي للإنجاز والتميز وتوظف فقط للكشف عن قابليات المتعلمين للحفظ واستظهار المادة الدراسية عن طريق الامتحانات والاختبارات الدراسية المتكررة.

"2" موت المدرسة العامة

في ظل هذا التوقع فإن الدور الاجتماعي للمدرسة العامة سيزول تدريجيا من مسرح الحياة وخصوصا إذا أخذنا في الاعتبار ما يأتي:

- افتقار المدرسة للإمكانات والمصادر العلمية والتقنية التي تمكن المدرسة من تكييف مناهجها بما يتلاءم مع المستجدات في المعرفة البشرية وتقنية المعلومات.

- محدودية إمكانات المدرسة في مواجهة التحديات الثقافية والسلوكية لفئات المتعلمين الخاصة كالناطقين بغير اللغة العربية، والجاليات الوافدة، وذوي التعلم البطيء أو المتفوقين في وقتنا الحاضر.

- ازدياد التنوع الثقافي للمتعلمين بالمدارس العامة وما يترشح عنه من مشكلات سلوكية وتعليمية قد يشجع الكثير من أولياء الأمور في المستقبل لإلحاق أبنائهم في مدارس أو معاهد تعليمية مختلفة يشرفون عليها بأنفسهم على نمط home-schooling، إذ يمكنهم إعداد أبنائهم وفقا لتطلعاتهم ومعتقداتهم الدينية مع المحافظة على نجاحهم وتميزهم في الجانب الأكاديمي.

- تطور تقنيات التعليم بشكل يوفر للأفراد خيارات متنوعة في التعليم عن بعد من دون الحاجة لمغادرة بيوتهم والتسجيل فقط في مراكز تعليمية لأداء الامتحانات المطلوبة.

- افتقاد الدعم السياسي والاقتصادي للمدرسة العامة من قبل الجهات العليا لظروف اقتصادية عالمية بحيث تعرض على أصحاب المال لشرائها ما يشجع أولياء الأمور على التدخل كمجتمع محلي في إدارة هذه المدارس في المستقبل.

وفي ظل الانفتاح السياسي الذي تنعم به الدولة لا يستبعد أن يسعى أولياء الأمور كجماعات ضاغطة عن طريق الممثلين لها في المجالس النيابية ليطالبوا الحكومة بإصدار تشريعات جديدة تتيح للمواطنين التعلم بمثل هذه البدائل وخصوصا مع تزايد الانتقادات لنوعية التعليم بالمدارس العامة وعدم اقتناع البعض بما يقدم في المدارس الخاصة.

وربما يؤيد هذه التخرصات الشعور الدائم بالإحباط لدى أولياء الأمور والطلبة حول المدرسة ودورها في بناء جيل صالح متعلم قادر على تحمل مسئولياته الوطنية والاجتماعية في ظل نظام تعليمي مازال يبحث عن حلول توفيقية لمشكلاته دون مواجهة جادة لمشكلاته المزمنة في المدارس كالانضباط المدرسي، وضعف الإدارات المدرسية، وفقدان المعايير في اختيار المعلمين، وغياب مبدأ المحاسبة للمقصرين "إداريين ومعلمين"، وتطبيق مناهج ونظم تقليدية في التعليم لا تتلاءم مع ما يدور في عالم اليوم.

"3" انبعاث جديد للمدرسة العامة

وعلى رغم الصورة القائمة التي يرسمها هؤلاء التربويون عن المدرسة، فإني مازلت مؤمنا بالمدرسة العامة كمؤسسة تربوية ووطنية تستطيع أن تسهم بقوة في دفع عجلة التنمية إلى الأمام إذا صدقت النية وتوافرت القيادات الإدارية الصالحة التي تقدم مصالح أمتها فوق كل اعتبار.

والمدرسة العامة كمؤسسة تربوية - إذا توافرت لها الظروف الملائمة - تتميز عن غيرها بأنها تقدم للمجتمع ضمانات لتعليم يعكس مطالب المجتمع المدني في توفير تعليم للجميع من دون تمييز على أساس من الجنس أو اللون أو المعتقد كما تقدم الخدمات التعليمية نفسها لجميع المواطنين بغض النظر عن مراتبهم الاجتماعية والاقتصادية، والمدرسة العامة تسهم أيضا بصورة مباشرة في تأصيل قيم الديمقراطية والإخاء والمساواة وتذيب الفوارق المصطنعة التي تروج لها الأحزاب الدينية والطوائف الاجتماعية المتطرفة.

والمدرسة العامة هي المكان الأمثل للمتعلمين - إذا سارت الأمور كما ينبغي - لكي يتعلموا ثقافة التعايش السلمي وتفهم الرأي الآخر وينفتحوا على أفكار ومعتقدات الآخرين في جو صحي نظيف من دون مزايدات أو شعارات حزبية من الخارج.

وفي اعتقادي بأن المدرسة العامة هي الأقدر على تقديم نوعية عالية من التعليم الشامل للجوانب المعرفية والأدائية والوجدانية التي يحتاجها المتعلم في مختلف المراحل الدراسية وخصوصا إذا تم توفير الأجواء الملائمة من استقلالية وتفويض ودعم للجهود المبذولة داخل المدرسة، وفي ضوء هذه التوجهات لابد أن يرتكز العمل المدرسي على مجموعة المبادئ الآتية:

* العمل ضمن رؤية واضحة ومحددة، وهذا يعني ان تمتلك المؤسسة المدرسية تصورا مستقبليا لما تسعى لتحقيقه من أهداف على المدى القريب والبعيد، بحيث تركز القيادة المدرسية كل امكاناتها وطاقاتها البشرية والمادية في الاتجاه الذي يقربها من الوصول الى هذه الغاية.

* العمل في جو ودي تسوده العلاقات الانسانية والاحترام المتبادل، وهذا يحتم على القيادات الإدارية بالمدارس الخروج من دائرة الاهتمامات الذاتية والتفكير الجدي بمشاعر وحاجات العاملين معهم وتوفير الفرص الكافية للتحادث معهم والاستماع الى ملاحظاتهم وآرائهم، وتشجيع اللقاءات غير الرسمية كالزيارات، والرحلات، والعمل التطوعي وغيرها من الوسائل التي تقربهم وتحبب لهم العمل في المدرسة كأسرة واحدة.

* العمل بروح الفريق الواحد: وهذا يقتضي مساعدة العاملين للخروج من العزلة الذاتية وتشجيع العمل الجماعي الذي يسهم في تطوير افكار العمل وتحسين الأداء، وبالتالي يمكن للعاملين في المؤسسة المدرسية ان يتخلصوا من الذاتية والتنافس البغيض ويشاركوا جميعا في تحمل المسئوليات لقيادة البرامج والفعاليات المدرسية التي تستهدف تحسين الأداء ورفع الكفاءة المهنية.

* العمل في ظل توقعات عالية للانجاز: وهذا يعني بأن نوفر للعاملين في المؤسسة المدرسية الصلاحيات، والامكانات المناسبة، والفرص المشجعة التي تعزز ثقتهم بأنفسهم وتدفعهم لمواجهة التحديات والصعاب وتحقيق افضل المستويات من الأداء التي نطالبهم بتحقيقها.

* العمل من أجل احتراف العاملين في المؤسسة المدرسية، وهذا يحتم علينا العمل معا لبلوغ العاملين أقصى درجات الاحتراف في عملهم كمدرسين متمكنين وقادرين على تحمل مسئولياتهم المهنية والتعليمية بالمدرسة عن طريق التدريب والتثقيف التربوي المستمر.

أما بالنسبة الى الجانب التعليمي فيجب على المؤسسة المدرسية ان تعيد النظر في برامجها ومشروعاتها التعليمية بحيث تسهم في تنمية المتعلمين بصورة متكاملة في الجوانب المعرفية والنفسية والاجتماعية، وبالتالي فإن البرامج التعليمية بالمؤسسة المدرسية يجب ان تركز على المحاور الآتية:

* اعتماد مبدأ التعليم للجميع، وذلك من خلال اتاحة فرص التعلم للطلبة بمختلف امكاناتهم الاكاديمية والعقلية والاجتماعية لبلوغهم المستوى التعليمي اللائق بهم كمواطنين وذلك بدعم الجهات الرسمية ضمن خطة تعليمية شاملة ومتكاملة.

* ربط التعليم بالحياة والمجتمع وذلك من خلال اعادة صوغ المناهج كوحدات دراسية ترتبط بالمشكلات الحياتية والواقع الاجتماعي وتاريخ الامة وحضارتها، اذ تتضمن هذه الوحدات موضوعات وقضايا تسهم في اكساب المتعلم مجموعة من المعارف والمهارات والسلوكيات والقيم الاجتماعية والدينية التي تساعده في الحاضر والمستقبل على التفاعل والتواصل بينه وبين الآخرين والاسهام في حل مشكلات مجتمعه.

* ربط التعليم ببناء الذات والمواطنة الصالحة، اذ يتم التركيز على تفعيل دور المتعلم في العملية التعليمية وتهيئة الظروف والامكانات والفعاليات التربوية التي تعزز المفهوم الايجابي عن ذاته، وتساعده على تنمية مشاعر الولاء والحب لوطنه وافتخاره بحضارته وانتمائه لدينه وعروبته.

* ربط التعليم بتنمية مهارات التفكير والعمل مع الآخرين وهذا يعني ان يتضمن التعليم بالمدرسة مساحة كافية لتدريب كل طالب على المهارات الدراسية، ومهارات التفكير العليا، ومهارات التعامل والعمل مع الآخرين من خلال المشروعات العلمية والعمل التطوعي المجتمعي والعمل التعاوني المدرسي.

* ربط التعليم باعداد المواطن المنتج الذي يسهم في خدمة وطنه، وهذا يتطلب ان يتجه التعليم في مدارسنا الى توسيع القاعدة العلمية والاكاديمية للطالب ضمن مناهج دراسية قائمة على معايير علمية ترتبط بجودة العمل والانتاج لعمل الطالب في التخصص الدراسي

العدد 850 - الأحد 02 يناير 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً