العدد 863 - السبت 15 يناير 2005م الموافق 04 ذي الحجة 1425هـ

غرفة "خالوووه"... ذاكرة وحكايات

أحمد البوسطة comments [at] alwasatnews.com

سقطت ورقة ثالثة من "غرفة خالوووه" الشهيرة في حي رأس الرمان الفقير بوفاة المغفور له بإذن الله تعالى المكافح شاكر عبدالله الماجد، إذ كانت الورقتان اللتان سبقتاه تحملان اسمين رائعين توفاهما الله، هما: النجار الماهر والرياضي المتألق في لعبة "البولينج" الطيب الذكر فيصلان الغائب، والعامل البسيط حسن بن حسن علي "بيليه" والملقب أيضا بـ "حسن شحته" لعشقه لعبة كرة القدم التي كان يمارسها في صباه.

وغرفة "خالوووه" التي افتقدت شاكر "الورقة الثالثة" الأربعاء قبل الماضي، عبارة عن حجرة نوم ومجلس في آن، ولا يتجاوز عرضها في طولها 4 أمتار مربعة في بيت يتكون من حجرتين وممر ضيق يفصلهما، لكنها تتسع إلى البحرين كلها، فروادها الطيبون ليسوا من رأس الرمان فقط؛ بل يأتون من المحرق وقلالي والحورة والذواودة والعوضية والفاضل والمنامة وقرى البحرين قاطبة، يجتمعون عربا وعجما، سنة وشيعة، يتجاذبون الحديث بهدوء عن "الحكايات الممنوعة"، ويتبادلون في هذه الغرفة الكتب التنويرية الممنوعة أيضا آنذاك في حقبة الستينات والسبعينات والثمانينات.

تقرأ على حيطان هذه الغرفة في البيت العتيق كلمات وشعارات مبتكرة بعفوية من سياق أحاديثهم ونكاتهم، وأيضا من صنع ألقابهم و"شفراتهم" الغريبة، مثل: "داميس، وتبيوكا" ولكل كلمة معنى مصطلحي مختزن في ذاكرتهم؛ أما شعار: "أصيدك دري ... أصيدك أودام!" المكتوب بخط أحمر فكان من إيحاء الفقيد الغالي شاكر الماجد الذي سنأتي على ذكره لاحقا.

في غرفة خالوووه هذه، كان برنامج "كتلة الشعب" ملصوقا على أربع زوايا وفوق "دولاب" الملابس المتواضع، ومن هذه الغرفة "يسارية الهوى" تنطلق حملات مساعدة فقراء الحي لبناء مساكنهم أو ترميم بيوتهم فيتساوى المثقف والأستاذ والمهندس والمحاسب بالعامل البسيط، في حمل أكياس الاسمنت و"لجينة الصبابة" أو تكسير الأحجار؛ ومن هذه الغرفة أيضا انطلقت حملة الانتخابات الداعمة لفوز المرحوم خالد الذوادي الذي فاز مع رسول الجشي في الدائرة الانتخابية نفسها في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1973؛ وكان للفقيد دور مميز في تجهيز "البوسترات" للمرشح عبدالهادي خلف في المنامة ومحسن مرهون في القضيبية، والانتقال إلى المحرق لدعم مرشحي الكتلة هناك ومن بينهم علي ربيعة ومحمد جابر الصباح والمرحوم عبدالله المعاودة، فهو يتحرك بشكل لافت مشيا على الأقدام أو في سيارته الهرمة "البيك أب" من بيت إلى بيت ليخبر المؤيدين والأصدقاء عن آخر "التكتيكات"، ويدس الأوراق "المخيفة" في جيوبهم لإنجاح مرشحي كتلة الشعب، يقترح المهمات، ويستثمر كل شاردة وواردة لتحقيق هذا الهدف لخدمة قضايا الوطن.

شاءت الظروف القاسية أن تعجن الفقيد بتعبها ومرارتها، غير أن شاكر "يتعب منه التعب"، فقد انتقل والده إلى رحمة الله في وقت مبكر عندما كان في الصف السادس الابتدائي، واضطرته الحياة إلى ترك مقاعد الدراسة والعمل عامل بناء لإعالة إخوانه وشقيقاته، ثم انضم إلى سلك الشرطة ليحرس "زنازين المناضلين" بعطفه و"من دون عصا"؛ وآنذاك كان "الشرطي يحمل العصا في كل مكان"، لكنه شخص مختلف، فهو يسدي الخدمات لهم في نقل الرسائل من السجن إلى خارجه، وعندما يجرجر المكبلين بالسلاسل منهم يستسمحهم بعيون باكية، ويعذب نفسه لعذابهم، حتى أنهت الداخلية خدماته عقابا على إنسانيته و"أشياء أخرى" تعرف من عنوانها.

تحدث لنا في غرفة خالوووه، عن أن معتقلا سياسيا كان في حراسته يصنع قبعة من السعف، ولتلطيف الأجواء معه لمساعدته فيما بعد، سأله: ماذا تفعل؟ رد المعتقل بعصبية: أصنع "كبوسا" أشرف من قبعتك! وبعفوية البسطاء رد شاكر: صدقت... صدقت؛ هل تريد مساعدة؟ فأجابه بعصبية: "لا".

يومها كان لـ "زميل" هذا المعتقل واحد من رجال رأس الرمان المحبوبين معتقلا في زنزانة أخرى، انتقل إليه للحصول على "بطاقة تعارف" مع رفيقه ليزرع الثقة بينه وبينه، دس الرأس رماني المعتقل بيده رسالة تحمل توقيعه، وما ان قرأها المعتقل "العصبي" حتى قدم اعتذاره إلى شاكر ونسج معه علاقة حميمة.

من رواد غرفة خالوووه، "شاكران"، شاكر الفقيد ومصطلحه "المتين"، وشاكر آخر ومصطلحه الـ "ربل"، وللسؤال عن أحدهما ينبغي التفريق بين "المتين" أو "الربل" لمعرفة المقصود. وكلاهما طيبان يحبان مساعدة الآخرين، و"الكتشية" أيضا. وكان "فقيد الغرفة" شاكر المتين يشتري بنصف دينار "تكة"، ومعها خمسة أقراص من الخبز، يلتهم الخبز أولا ثم يلف القرص الأخير بـ "التكة" والخضرة ليوهم نفسه بأنه اشترى بدينارين تكة! ثم يحتسي الشاي ويسترخي وينام، غير أنه عندما توفاه الله تساوت بنيته في السنوات الأخيرة بـ "الربل" بسبب مرض السكر الذي نهش جسده وقطع أطرافه، كما في مسلسل أيمن زيدان "نهاية رجل شجاع".

قال ذات مرة مازحا: "شباب: أقول لكم من الحين، إذا تم اعتقالنا، لا تفكروا في بدعة الإضراب عن الطعام... بصراحة، أنا ما أقدر، كل شيء ولا الأكل، مو بعدين تقولون عني خائن!".

يومها كانت حملة اعتقالات في صفوف اليسار البحريني من بينهم المرحوم طاهر صالح، ومن زوار غرفة خالوووه الدائمين ماجد الزري، وكان يجري الحديث عن تنظيمهم إضرابا عن الطعام في المعتقلات في العام 1981م.

أما حكاية شعار: "اصيدك دري اصيدك أودام" الذي يتصدر غرفة خالوووه، فقد تم اختراعه بعد تكراره على لسان الفقيد شاكر، فعند سؤاله: "لماذا تأكل وتحتسي الشاي وتنام بسرعة؟! وجوابه كان دائما: "تصيدكم قعدة الساعة خمس، يصيدكم دري "درج"... يصيدكم أودام ؟!"، في إشارة إلى الجالسين ووظائفهم "الناعمة".

أذكر حادثة لن أنساها عندما كان وزير البلديات المرحوم بإذن الله الشيخ عبدالله بن خليفة في زيارة تفقدية لمنطقة رأس الرمان، وعند مرورنا أمام "بيت عمران" نظر الشيخ إلى أسفل البيت المقابل، وسأل رئيس نادي رأس الرمان علي بن أحمد الخزاعي باندهاش قائلا: "أخ علي، هل يعيش بشر في هذه الحفرة؟!، فرد علي: نعم طال عمرك. وبتلقائية غير متوقعة من الجميع أشار الشيخ عبدالله بسبابته إلى قاع القاع مخاطبا علي بن أحمد: "من هنا تخرج الشيوعية!". وأضاف: "إذا رأى الناس انك تملك عمارة من ثمانية طوابق فوق الأرض، والآخرين يعيشون ثمانية طوابق تحت الأرض، من الذي يمنعهم من أن يصبحوا شيوعيين؟!"، عندها نطق الفقيد شاكر بعد قهقهات الجميع بقوله للشيخ عبدالله بن خليفة: "صح لسانك يا شيخ، هذا كلام العدل، هذا الكلام الصح"!

في آخر أيامه تحول شاكر العامل البسيط إلى "برجوازي صغير"، كما يقول عن نفسه، بعد أن امتلك مصنعا صغيرا لنوافذ وأبواب الألمنيوم، وتحول أيضا من "شاكر المتين" إلى شاكر الضعيف، بسبب مرض السكر، لكن سلوكاته على رغم مرارة المرض ظلت كما هي: يحب الناس ويحبونه، والابتسامة لم تفارق محياه حتى عند اشتداد المرض عليه، رافعا راية الأمل عالية، ولم يطرق اليأس بابه. هذا هو شاكر الذي رحل عنا، هذا هو شاكر الذي عرفناه، وهذا هو الذي افتقدناه كما افتقدنا غرفة خالوووه التي أصبحت مهجورة في البيت العتيق أواخر الثمانينات، ولم تعد صالحة للسكن الآدمي، غير أن ذكراهما، شاكر وبيت خالوووه، لن تمحى من الذاكرة

العدد 863 - السبت 15 يناير 2005م الموافق 04 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً