العدد 869 - الجمعة 21 يناير 2005م الموافق 10 ذي الحجة 1425هـ

التجار والسياسة

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

أخيرا، حسم التجار أمرهم وقرروا دخول المعترك السياسي والبداية انتخابات العام 2006 النيابية. لكن ألم يستوقفكم هذا الجدل الطويل والمناقشات والمناظرات التي استغرقها التجار قبل اتخاذ قرارهم هذا؟ فعندما يقرر التجار أن يدخلوا المعترك السياسي فإن هذا نصف عبارة لأن المعنى الوحيد للقرار هو أنهم لم يكونوا راغبين في الدخول من قبل. فهل كان التجار عازفين عن الدخول قبل أن يتخذوا قرارهم هذا؟ أو هل كانوا يرون في العمل السياسي حرفة لغيرهم؟ هل كان هناك ما يمنعهم من خوض غمار السياسة؟

في برلمان العام ،1973 كان هناك عدد لا بأس به من التجار وهذا إذا كان سينعش ذاكرتنا بشيء، فإنه سيحيلنا مرة أخرى إلى التاريخ عندما نجد أن التجار كانوا قادة الخمسينات وحركتها الناجحة "هيئة الاتحاد الوطني". وأبعد من هذا رواد الإصلاح والتحديث منذ أن أصدر عبدالله الزايد صحيفته في الثلاثينات من القرن الماضي. فهذا الأخير لم يكن تاجرا فحسب بل رائدا للصحافة والمسرح والسينما ومثقفا ذا رؤية. فما الذي تغير منذ ذلك الحين وحتى أيامنا هذه، لكي يصبح دخول التجار المعترك السياسي بحاجة إلى كل هذا النقاش والمناظرات التي امتدت شهورا قبل أن يتخذوا قرارا بالدخول إلى الحياة السياسية؟

إذا ما أخذنا في الاعتبار التحليل الطبقي والاقتصادي لحركة التجار ودورهم منذ مطلع القرن الماضي، فإن تجار الثلاثينات والخمسينات جاءوا من رحم المد القومي الذي طبع حركتهم بلاشك بذلك النوع من الرؤى النهضوية الشاملة. تأسيس المسرح والصحافة على يد الزايد في الثلاثينات وتصدر الحركة الثقافية والأدبية، إنشاء أول شركة تأمين وأول اتحاد عمالي في البحرين وصوغ أول قانون عمل في الخمسينات، كلها علامات على هذا التفكير الرؤيوي. في ذلك الوقت، كانت الايقونات والرموز مختلفة سواء أكانت مصر أو الهند، الاقتصادي المصري الرائد طلعت حرب أو الزعيم الهندي جواهر لال نهرو.

لم يخفت صوت التجار سياسيا ودورهم نتيجة ظهور تيارات راديكالية جديدة احتلت الساحة بجدارة "اليسار والإسلاميين"، بل إن سنوات انكفائهم عن المعترك السياسي شهدت ولادة جيل جديد من التجار سواء في أوساط العائلات التجارية القديمة أو جيل جديد لا يمت للطبقة التجارية القديمة بصلة.

لكن يفوت الكثيرين التغيير الأهم مع هذه الأجيال الجديدة: "ليسوا ذوي خلفيات سياسية من أي نوع". فإذا كان آباؤهم قد خاضوا من التجارب السياسية الشيء الكثير ودفع بعضهم الثمن بخسارة شيء من ثروته وتجارته أو كلها، فإن هذه التجارب بقيت ذكرى غائرة لدى الآباء أنفسهم. الجيل الجديد هو ذاك الذي تعلم في أميركا وبريطانيا ودول الغرب الصناعي بعد أن كان آباؤهم قد تعلموا في مصر وبيروت وبغداد ودمشق والهند. الجيل الذي يتقن الانجليزية بل وتصبح أحيانا أداته المثلى للتعبير عن الافكار. أما الافكار فهي مختلفة وتتأسس على قيم من نوع لم يألفه آباؤهم: "تقديس الفردانية" إن في النشاط الاقتصادي والتجاري أو في الحياة الخاصة، على النقيض مما تحمله السياسة من آمال كبرى وأوهام أحيانا تشترك فيها فئات عريضة من الناس. كان هذا علامة لقطيعة مع مرحلة سابقة كان التجار يرون أنفسهم في صميم العمل السياسي بما يعنيه ذلك من التصاق بالفئات العريضة من الناس.

التجار بالنهاية بأجيالهم القديمة والجديدة، جزء من تلك الأجيال من البحرينيين التي خسرت حقها في التعبير طوال ربع القرن الماضي، لكن الإحساس بهذه القطيعة ربما يفسر هذا التردد في دخول المعترك السياسي لأن القطيعة تحمل في طياتها حقيقة أخرى هي انعدام الخبرة ولربما الاغتراب عن العمل السياسي.

الاغتراب عن العمل السياسي، يعني من وجهة نظر أخرى اغترابا عن مجتمع استحوذت عليه بقوة الطروحات الايديولوجية الراديكالية التي لا تستقيم مع وسطية التجار وقدرتهم على التفاوض أو ميلهم للتسويات.

الرصيد المطلوب للعمل التجاري المحض هو نفسه المطلوب للعمل السياسي، وليس على التجار الآن سوى مراجعة رصيدهم "بالمعنى الأشمل للكلمة" بعناية. إن دخولهم المعترك السياسي لا يمكن أن ينظر إليه الا كمؤشر إيجابي نأمل معه أن يعيد شيئا من التوازن للحياة السياسية في بلادنا، لكن المرجو هو ألا يكون هذا الدخول قد تم بناء على رصيد غير كاف

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 869 - الجمعة 21 يناير 2005م الموافق 10 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً