العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ

مكسبنا الأهم

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في العام ،1956 خرجت بعض مواكب العزاء الحسيني في بلادنا وهي تحمل الأعلام المصرية. هل تعرفون لماذا؟ بسبب العدوان الثلاثي على مصر.

وفي الخمسينات أيضا والستينات، كان "الشمر" قاتل الإمام الحسين يجسد في المواكب على هيئة ضابط بريطاني بكامل لباسه وعدته. مساكين أولئك الشباب الذين تحملوا عبء تجسيد الشمر في تلك الهيئة، فقد كانت اللعنات تحل عليهم مزدوجة: استدعاء الذاكرة كقاتل لسبط الرسول "ص" وتجسيدا لحاضر يناضل لتغييره كل البحرينيين.

لم أشهد ذلك، لكن بإمكانكم الرجوع إلى علي أكبر بوشهري وخليل المريخي وغيرهما من المؤرخين بل حتى كبار السن الذين عاصروا تلك الأيام وشبان تلك الأيام الذين صاروا اليوم في الخمسين من أعمارهم أو نحوها.

في السبعينات، لم يكن أي موكب عزاء ليخلوا من هتاف سياسي، وفي الثمانينات كانت بعض المواكب تهتف بالسلام الوطني للجمهورية الإسلامية في إيران بالفارسية والعربية. بهذا التقليد القديم، راحت مؤسسة العزاء تشكل ترمومترا حيويا لقياس الأوضاع في بلادنا وعلى نحو ما كانت أداة رئيسية لإيصال رأي غير متداول غالبا وغير مسموع.

لكن منذ ثلاثة أعوام، توالي مؤسسة العزاء إدهاشنا بتغيرات ذات شأن: نقل مباشر بالانترنت وشاشات تتوسط الشوارع الكبرى في المنامة، دروس بالإنجليزية للأجانب، صحف ونشرات تصدرها المآتم، ومرسم في فريق الفاضل يوالي تقديم صور جديدة للطقوس مستعينا بالتقنيات الحديثة. آخر الابتكارات: أطول شمعة في العالم مسجلة في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية يشعلها عشرات ممن يحملون اسم "حسين". هل يتعين التذكير بالمعارضة الشديدة لتصوير المواكب وطقوس العزاء؟ انظروا اليوم الى مئات الكاميرات التي تصور المواكب في الشوارع والقراءات داخل المآتم والحسينيات "شكرا للتقنيات الحديثة" ولمواقع الانترنت التي تنقل كل شيء. حسينيات النساء، أصبحت تقدم مسرحيات مستمدة من المناسبة. أما نقطة التحول الأهم: بدء التلفزيون الرسمي للدولة بنقل مراسم العزاء والدروس الحسينية طيلة الأيام العشرة الأولى من محرم.

ربما يتعين علينا أن نبدأ من هنا، مع قيام التلفزيون بنقل المراسم والطقوس وتكريس وقت من البث التلفزيوني لها عبر استضافة المتحدثين أو النقل الحي للمراسم، فهاهنا يبدأ التحول عندما يجد المواطنون الشيعة أنفسهم في جهازهم الإعلامي الذي ظل غائبا عنهم.

إحدى الملاحظات الأساسية لهذا التحول هو ان جرعة السياسة في العزاء خفت. هذا لا يعني أنها انتهت أو تراجعت أو أنها لن تعود إلى الظهور مرة أخرى، العبرة شيء آخر تماما: عندما تسود حرية التعبير لن تعود هناك حاجة إلى التسييس. هذا على مستوى العزاء، لكن القانون الأهم هنا هو ان سيادة حرية التعبير ورسوخها ينفيان حاجتنا إلى الخلط. أي البحث والتفتيش عن قنوات أو أدوات يمكن أن توصل صوتنا غير المسموع. صوتنا اليوم "مع الأخذ في الاعتبار ملاحظات واستدراكات عدة" يصل عبر أدواته المناسبة: الصحافة، ممثلين منتخبين من الناس سواء في المجالس البلدية أو البرلمان، جمعيات سياسية تعبر عن آرائنا وخياراتنا السياسية، جمعيات أهلية ناشطة في كل الميادين. جمعيات حقوقية تحمي حقوقنا كبشر ومواطنين متساوي الحقوق والواجبات.

أحد أهم أركان الديمقراطية هو "حرية التعبير"، وأحد أهم فضائل حرية التعبير أن كل شيء يخرج للعلن ولا يبقى حبيس الجدران أو العقول بل جزء من مناظرات ونقاشات واسعة وممتدة.

هل تحتاجون الآن إلى نصيحة تقول: علينا الحفاظ على حرية التعبير؟ أو أن أردد عبارات مستوحاة من كتاب "ألف باء الديمقراطية" تقول: إن "حرية التعبير يجب أن تكون متاحة للجميع من دون استثناء بغض النظر عن الجنس أو الدين أو المذهب او العرق؟". هل تريدون درسا آخر يقول: إن "علينا تقبل الاختلاف "من دون أحقاد أو ضغائن" في الرأي كإحدى الحقائق الراسخة في الحياة؟".

هل تحتاجون أخيرا إلى التذكير بالقانون الأهم: ليقل الجميع رأيه أيا كان والحكم النهائي سيبقى "من دون وصاية" للناس التي تملك من الحصافة والعقل ما يجعلها تميز بين الصالح والطالح؟ وإن قدرتنا على الإقناع هي وسيلتنا الوحيدة لا في طرح وجهات نظرنا وآرائنا بل في اجتذاب الآخرين إليها؟.

أود أن أقول شيئا واحدا: علينا ان نجعل من حرية التعبير مقياسنا الأهم في الحكم على الصواب والخطأ في أي توجه أو رأي أو تدابير أو قانون أو إجراء سواء لدى الحكومة أو لدى سواها أيضا. مقياس كهذا: هل ينتقص من حرية التعبير أم يعززها؟. انها مكسبنا الأهم

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً