المتابع لتاريخ الشعائر الحسينية في البحرين يلاحظ بوضوح مدى تأثيرها الوجداني "العاطفي" والديني، ودورها في صوغ الوعي الإسلامي وفق ثقافة أهل البيت "ع". ففي إحصاء العام 1975 وصل عدد الحسينيات في البحرين إلى خمسمئة حسينية، وهذا الرقم بالنسبة إلى بلد صغير كالبحرين، يعتبر ضخما... ولا شك في أن العدد قد تضاعف خلال السنوات الأخيرة.
ومن بين القرى الناشطة في مجال الشعائر الحسينية تبرز "قرية السنابس" الواقعة في الجهة الغربية للعاصمة المنامة، وتوجد بها أربعة مآتم حسينية هي "مأتم السنابس، بن خميس، السنابس الشرقية، آل عبدالحي". ويعود تاريخ تأسيس مأتم السنابس إلى العام ،1965 بينما تأسس مأتم بن خميس العام 1905 على وجه التقريب، ولفظة "بن خميس" نسبة إلى الحاج أحمد بن خميس، الذي كان نشيطا في إقامة الاحتفالات بمواليد أئمة أهل البيت "ع"، بالإضافة إلى العزاء بوفياتهم. وذكر الاحتفالات هنا يشير أيضا إلى المناسبات الإسلامية، إذ كانت طريقة الاحتفال الديني حينذاك تقليدية من حيث الأسلوب والمنهج، لأن طريقة الاحتفال بالمواليد المقامة حاليا بأسلوبها المتطور أسسها المرحوم أحمد الإسكافي مع اخوانه من الأساتذة الكرام.
وكانت القراءة الحسينية التقليدية سمة غالبة في كل مآتم السنابس حينذاك، ولكنها مع مرور الزمن تطورت بفعل عوامل كثيرة، لتصبح بصورتها الخطابية الحديثة، أي مزج ذكرى المقتل الحسيني بواقع العصر ومشكلاته، لتكون أهداف النهضة الحسينية أكثر اقترابا من معاناة الإنسان وقضايا المجتمع الإسلامي، ومحاولة صوغ خطاب إسلامي يتلمس حياتنا وأخلاقنا وواقعنا المعاصر.
وبالنسبة إلى الدراسة في مآتم منطقة السنابس، فكانت تقتصر على تعليم اللغة العربية والإنجليزية. كما كان تعليم أحكام الصلاة والفقه سنة قديمة تطورت مع مطلع الثمانينات من خلال دورها التعليمي والأخلاقي والثقافي الواسع. وكان نشاط المآتم الحسينية بالمنطقة كبقية المآتم بحاجة على مورد مالي يدعمه ويسانده لأداء رسالته، ويتضح ذلك من خلال التعاون مع فئة التجار والفلاحين بالإضافة إلى دعم الجمعيات والصناديق الخيرية والنوادي الثقافية.
وبالعودة إلى تاريخ العزاء قديما في منطقة السنابس، يتضح لنا أن الموكب العزائي كان يقتصر نشاطه داخل المأتم. وكانت حلقات العزاء قديما تتكون من "6 إلى 7 حلقات" واقتصرت على حلقتين فيما بعد، وكان كل فرد يمسك بطرف الثاني، ويسير الموكب مرورا بعدة قرى كالديه وجدحفص. وكان لكل قرية أو مدينة موكب عزاء، وبعض مآتم القرية الواحدة كانت تشترك في موكب موحد ولله الحمد. وكانت القصائد الحسينية باسم الإمام الحسين والعباس "عليهما السلام"، وحديثا دخل المستهل وتغير الأسلوب الإلقائي بتغير الظروف، وأصبحت ظاهرة العزاء أكثر ارتباطا بالوجدان الشعبي وبمعاناة الإنسان المعاصر من خلال الارتباط الروحي بثورة الإمام الحسين "ع".
وكان لإدارة مأتمي بن خميس والسنابس حضور بارز في القرية، وقبل وجود المآتم الأخرى. إذ كانت جميع فئات المجتمع تشارك في تشكيل الموكب، والحرص على إحياء المناسبات الدينية. ومما يذكر أمانة للتاريخ هو سيادة الروح الجماعية في شئون تنظيم الموكب العزائي، وحب العمل الإسلامي التطوعي على رغم الصعاب التي يواجهها رجال الإصلاح الاجتماعي والتغيير السياسي.
وقامت مآتم منطقة السنابس بالمشاركة في العمل الوطني من خلال أداء رسالتها الإسلامية، ولعب المنبر الحسيني في بعض المراحل التاريخية والظروف السياسية دورا جليا في سبيل تأكيد الهوية الأصيلة للشعب البحريني، وبث الثقافة الإسلامية وإشاعة الوعي السياسي، وحث الإنسان على المطالبة بحقوقه وحرياته الأساسية. وكمثال على ذلك، شهد مأتم بن خميس في العام 1954م تشكيل أول وأكبر تنظيم جماهيري عرفته البلاد في تاريخها المعاصر، وهو ما عرف باسم "الهيئة التنفيذية العليا" التي وضعت تحت قيادة أربعة من علماء الدين، بالإضافة إلى آخرين من عناصر المعارضة، وذلك في بداية تشكيل البرلمان وتأسيس الحياة النيابية الدستورية.
كما شهد مأتم السنابس "الجديد" حركة ثقافية واسعة بمشاركة أطياف سياسية وطنية، ففي مرحلة الخمسينات كان "نادي العروبة" يلعب دورا مهما مع الحسينيات في بث التنوير السياسي وإشاعة الثقافة الدينية، والإرشاد التربوي والقضايا الاجتماعية. وكان بعض علماء الدين يشارك في أنشطة النادي الثقافية والسياسية، وكان ذلك الدور إبان "حركة الهيئة" حتى أصبح نادي العروبة أنموذجا تحتذي الكثير من الأندية في قرى وأرياف البحرين به. وشاهدنا من ذلك هو أن مسألة التعاون والتنسيق بين المأتم والنادي قائمة في تلك الفترة حتى الآن، مع اختلاف الأدوار وتنوع الأهداف.
ويمكن القول إن المهمات التي قامت بها مآتم المنطقة كبيرة في سبيل صوغ العقل الاجتماعي واستنهاض الوعي الشعبي وفق منظومة قيم دينية وأخلاقية. وقد تأثرت الشعائر الحسينية في المنطقة بالانتصار التاريخي للثورة الإسلامية في إيران، واقتبست منها عادات وتقاليد اجتماعية، في ظل تأجج العواطف والحماس الجماهيري، ولكن حركة الشعائر الحسينية في البحرين انفردت فيما بعد لتصوغ حركة شعائرية متميزة في منطقة الخليج العربي وفي أوساط الجاليات الأجنبية.
وقد ساهمت مآتم منطقة السنابس في تعميق الثقافة الحسينية، وانتشار مواكب العزاء لبعض القرى المجاورة، بالإضافة إلى المساهمة في نقل تجربة التعليم الديني لبقية المآتم في البحرين. وكان لهذه التظاهرة الإسلامية دورها الكبير في تطوير الخطاب الديني وتعزيز الهوية الإسلامية، من خلال توسيع دائرة العمل الإسلامي، وتعميق الوعي الشعبي بدور المساجد والمآتم الحسينية، وفهم الإسلام كأيديولوجية عقائدية وفكرية ورؤية متكاملة للحياة الإنسانية.
أحمد رضي
العدد 897 - الجمعة 18 فبراير 2005م الموافق 09 محرم 1426هـ