العدد 913 - الأحد 06 مارس 2005م الموافق 25 محرم 1426هـ

امبراطورية "عاجل" الإعلامية تحت المجهر!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

كنت ولا أزال أعتقد أن مجمل النقد الذي توجهه السلطات الحاكمة في أي بلد للإعلام سببه الرئيسي ضيق صدر الحاكم بالنقد والانتقاد وحرصه الفائق بل وتوقه الشديد لأن يرى الوسيلة الإعلامية أداة "لتلميع" صورته أو مرآة ذات بعد واحد وظيفتها الأساسية "عكس" لوحة أعماله وإنجازاته! غير أن تجربتي الطويلة في الإعلام "وانغماسي" في "مطابخ" صناعة الخبر في أكثر من وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية، ومن تيارات واتجاهات أو توجيهات أو احترافات مهنية مختلفة ومتنوعة نبهتني إلى أمر لا يقل أهمية وخطورة عن مأزق البعد الأول.

فكما يضيق صدر الحاكم - أي حاكم - بالنقد الموجه لأدائه، وخصوصا إذا ما شعر أنه مستهدف بالذات من دون غيره وبشكل مباشر، فإن صانع الخبر أو من هو وراءه يعاني وهو يمارس عمله المهني والحرفي اليومي - هذا إذا ما أردنا أن نحسن الظن باستمرار في مهنة الإعلامي وعدم تخطيه أو تجاوزه قانون المهنة الصرف - ضيقا دائما في صدره وعقله وذهنه "الفضولي" بطبعه بسبب رتابة الخبر اليومي وتكرار الحوادث والوقائع المتشابهة والمتقاربة في تأثيراتها وتداعياتها على المتلقي.

وهنا سرعان ما يلجأ عقل الإعلامي المبدع والميال إلى الإثارة من أجل جلب انتباه المستهلك له دون غيره من وسائل أو قنوات توصيل المعلومة أو الخبر، فيقع أحيانا فيما لا يجوز الوقوع فيه من تقويل لصانع الخبر أو الافتئات عليه أو تحريف فاضح لما قيل على لسانه أو حتى "صنع" خبر لا أساس له من الصحة بتاتا، بناء على "توهم" مفاده بأنه "أفقه" من صاحب الأمر بطريقة عرض الواقعة إلى أن يقع فيما لا يحمد عقباه أحيانا فيخلق أزمة لا أول لها ولا آخر بسبب "إبداعه" المذكور ذلك!

في العرض المبسط الآنف الذكر تبقى المشكلة قابلة للسيطرة ومن ثم للحل من خلال نفي من هنا وتوضيح من هناك ورفع التباس هنا أو دفع شبهة من هناك.

لكن حركة الإعلام الشاملة لاسيما بعد التطور الهائل الذي صاحب صناعة الإعلام وتداخل هذه "الصنعة" مع مهنة السياسة والسياسيين وتداخلها بل تشابكها المعقد مع قضايا النزاعات والصراعات والحروب والمشروعات الاقتصادية والاستراتيجيات الكبرى للدول والبلدان قد تجعل "ضيق صدر" الإعلامي مادة خام أولية مناسبة لتحقيق مآرب كبرى لدى أصحاب الطموح والأطماع هنا أو هناك.

لا بل إن الأمر قد يتطور - وهو ما بات يرى ويلمس اليوم بوضوح - إلى فرصة ذهبية سانحة لهذا الطرف الطامح أو الطامع ذاك ليتحكم بمجمل مسار إعلامي هنا أو هناك، أو حتى بالتحكم والتوجيه الكامل لمجمل الحركة الإعلامية في قطر أو إقليم بكامله إذا لم يكن بالعالم كله كما هو الحال في الامبراطوريات العالمية الشهيرة التي غالبا ما تستطيع توجيه وتسيير "اتجاهات" الأخبار الرئيسية في العالم لتمكنها من الوصول إلى أماكن الحدث والواقعة قبل غيرها بفضل مالها وقدراتها التكنولوجية وعلاقاتها العامة وخبرتها وأخيرا لا آخرا "حنكتها" وفنها في تسويق الواقعة أو الحدث أو الخبر بـ "حرفية" ماهرة إلى الدرجة التي تصبح مقنعة حتى لدى صاحب الخبر أو الواقعة نفسه، وإن جاءت خلافا لسياق يعرفه أو ضدا لمصلحة أرادها!

وهنا تدخل موضوعة الحرب النفسية التي يتحدث عنها الكثيرون من دون أن يعرفوا بالضبط كيف "تصنع" في مطبخ صناعة الخبر وكيف تفرض كواقعة "شيقة" ولذيذة وفاتنة حتى على المتضررين منها.

انظروا معي الآن على سبيل المثال لا الحصر - ولنتدرج شيئا فشيئا - كيف أن بنغلاديش لا تأتي في الأخبار إلا مع حوادث "الفيضانات"، وإفريقيا لا تأتي إلا بحوادث النزاعات بين القبائل أو الاثنيات "المتناحرة"، وكأنه لا يحصل شيء في بنغلاديش سوى الفيضان! ولا يوجد شيء في إفريقيا سوى "المذابح"! وهكذا تصبح الجزائر لفترة مترادفة مع عمليات القتل المنظمة للإسلاميين! ولا تقرأ مصر يوما إلا مع حرب الجماعات الإسلامية على الحكومة والسياح الأجانب وبعض البلدان النفطية إلا مع النفط والغاز الطبيعي!

إنها قمة التعمية والتضليل والخداع والتحايل الفاضح على القارئ والمستمع والمشاهد الذي لا يملك من أمره إلا الاستسلام لعملية "الومضة" الخبرية المخادعة هذه والهادفة إلى تكثيف عملية الزيف والخداع النظري والسمعي والعقلي بأعلى درجات "الحرفية"!

قد يكون كل ما يذكرونه عن تلك البلدان صحيحا وقد لا يكون، فليس الأمر مختلفا عليه بهذا المقدار. بل الأمر فيما إذا كان لا يحصل في تلك البلدان في تلك اللحظة ومن ثم على مدى العام سوى ذلك أم أن أشياء أخرى كثيرة تحصل هناك أيضا؟! لكن المطلوب أن تبقى أسماء البلدان والدول مترادفة في ذهن الرأي العام العالمي بسياقات خبرية معنية "لغاية في نفس يعقوب" وامبراطورية يعقوب الإعلامية. أليس كذلك؟!

نأتي الآن إلى الحاضر الآتي و"العاجل" كما عودتنا الفضائيات مجتمعة أخيرا وهي التي تخوض سباقا محموما في سياق إعلام "امبراطوري" بات يتحكم بالجميع بزعمي على رغم "تبجح" الكثيرين بقدراتهم الذاتية.

فالعراق يساوي السيارات المفخخة لجماعة الزرقاوي "المزعوم" ضد المدنيين من المواطنين ولا مقاومة ضد الأجنبي المحتل

وفلسطين تساوي نجاح التسوية على حساب دورة العنف والإرهاب الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية المسلحة ضد دولة "إسرائيل" الديمقراطية والمسالمة!

وإيران تساوي النشاط الدولي المحموم لوقف الطموح النووي الإيراني الذي لا يعني سوى التسلح النووي طبعا! وسورية تساوي دعم الإرهاب في العراق و"احتلال" لبنان لغرض التحريض ضد "إسرائيل" وليس لديها أراض محتلة اسمها الجولان! ولبنان يساوي الوطن "الأسير" الذي قرر "شعبه" إطلاق "انتفاضة" الاستقلال!

إنه تجهيل إعلامي فج وتسخيف للعقول وتسطيح مقصود للمعرفة الإعلامية. أليس كذلك؟! والأنكى من ذلك هو اتهام كل من يخرج على هذا السياق الاخباري والإعلامي بالإرهاب فيما الامبراطورية الإعلامية "مقفلة" لصالح أجندة واحدة عنوانها العريض "إعادة رسم خريطة المنطقة" رغما على حكامها وشعوبها ونخبها وتاريخها وجغرافيتها.

أليس هذا إرهابا إعلاميا منظما خطط له بأعلى درجات "الحرفية والمهنية"! تتلقاه الحكومات والنخب وكأنه أشهى من العسل وينفذه خبراء الإعلام والتحليل الاخباري الأماجد وهم في نشوة المتسابق على نقل "المشهد..." عن هذا القطر أو ذاك وحجتهم المهنية معهم دائما: لابد أن تكون في موقع الحدث بالصوت والصورة ناسين أن من يصنع الحدث باتت امبراطورية الترهيب الإعلامي المنظم

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 913 - الأحد 06 مارس 2005م الموافق 25 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً