العدد 947 - السبت 09 أبريل 2005م الموافق 29 صفر 1426هـ

تواطؤ الدول ورأس المال على إعادة إنتاج الفقر والشقاء

الإعمار والبؤساء

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

تداعت إلى ذهني صور مرت بي حين كنت في ضيافة أسرة صديقة مقيمة منذ مدة في إحدى دول الخليج. بدا أفرادها مبهورين من تسارع وتيرة التطور العمراني والاقتصادي هناك، وأحسب أن لهم كل الحق في ذلك الانبهار والدهشة، فتحديث البنى التحتية من إنشاء طرق سريعة وجسور معلقة وتعبيد للشوارع الرئيسية والفرعية، وتشييد ناطحات السحاب والعمارات المتعددة الطوابق بالمئات وربما بالآلاف والمتلألئة بأنوارها الأخاذة، فضلا عن بناء المجمعات التجارية الكبرى وانتشارها في غالبية المناطق والفنادق العالمية وعلى أرقى مستويات ومتطلبات الرفاهية، علاوة على المنتجعات السياحية التي تخترق مياه البحر لتصل المدينة القديمة بالحديثة. نقول إن كل ذلك الإعمار لا يضاهيه إلا التطور العمراني الذي حصل في الدول المتقدمة والحديثة، كما لا نجده إلا في الدول التي هيأت نفسها لدخول عصر العولمة من أبوابها الواسعة، وحذرا من أن يؤخذ بشأنها قرار سياسي من نخب الدول الكبار يرميها في مزبلة التاريخ ويجمدها ويعيدها إلى العصور الوسطى. بدورها مناطق التجارة والصناعة الحرة شبه الخارجة عن السيادة الوطنية فتحت ذراعيها لاجتذاب واستجلاب الاستثمارات من رؤوس الأموال العالمية قبل المحلية، وأثارت اللغط بشأن جدواها والغيرة والمنافسة أيضا من قبل الجيران، فالزائر لهذا البلد الخليجي يتلمس هذا الوضع الاستثنائي من دون عناء أو تفكير، ويلاحظ بالمقابل ظاهرة انحسار أهل البلد عن المشهد العام، إذ يقيم فيه ما نسبته 80 في المئة من أجناس عدة أتت من شتى بقاع الدنيا. وهي خليط لا هوية له سوى الاستهلاك والكسب السريع، والجري في المجمعات التجارية وراء أحدث المنتوجات وقضاء الأمسيات في الحانات الليلية بعد عناء يوم عمل مرهق فاق العشر ساعات، والعيش على وتائر الضجيج المستمر. أما النخب بتلاوينها ومستوياتها كافة فهي الأكثر سعيا إلى عقد الصفقات المالية والتجارية الواحدة تلو الأخرى، كل شيء قابل للبيع والشراء السريع، بضغط على زر في لوحة الهاتف - الكمبيوتر الجوال. إنه السحر والخيال في عوالم المال والأعمال، وعليه لا ملامة للزائر أو المقيم في تلك البقعة الخليجية إن لويت عنقه يمينا ويسارا أو بهرت أنظاره الأنوار المتلألئة.

بيد أن هناك مشاهد ومآس تظل متخفية خوفا من تجلي صور القبح وعالم الخواء القابع خلف تسارع ذاك التطور العمراني وحرية حركة رؤوس الأموال واستقطابها. لا مبالغة في القول إن تلك المشاهد قد تشعرنا في العمق بالضآلة وربما الصحو فيما بعد على حجم هائل من الخسائر التي تتكبدها مجتمعاتنا وأجيالنا القادمة. الدلالات واضحة وفاقعة الألوان تمثلت لي أثناء الزيارة في ثلاث حكايات نشرت إحداها في إحدى الصحف هناك، وخبرها استفزازي يتضمن تأكيد وزارة العمل والشئون الاجتماعية هناك عدم حق العمال في التوقف عن العمل - أي الإضراب - خلال الفترة التي ينظر فيها في منازعاتهم العمالية. كذلك يشير إلى غياب النص القانوني المانع لعمال القطاع الخاص من اللجوء إلى الإضراب قبل تقديم شكواهم إلى الوزارة. ويقر مسئول الوزارة بأن جميع حالات التوقف عن العمل كان سببها تخلف أصحاب الشركات عن سداد أجور عمالهم لعدة شهور وخصوصا في قطاع المقاولات "القائم بأعمال الإعمار وتحديث البنى التحتية التي تبهر الزائر والمقيم"! ويشدد أيضا على عدم جواز الإضراب، والحل يكون أما بالتوجه إلى القضاء أو الوزارة. العمال يردون قائلين: إن أسلوب الإضراب يمثل لهم وسيلة ضغط على الشركات التي لا تنتظم في سداد أجور عمالها لعدة أشهر ولا توفر لهم السكن الملائم. وفي السياق ذاته اشتكى العمال من سوء معاملة أصحاب بعض الشركات، ولاسيما عندما لجأوا بشكواهم إلى الوزارة، وهددوهم بإعادتهم إلى بلادهم في حال استمرارهم في المطالبة بتسلم أجورهم نهاية كل شهر، مع ملاحظة أن معدل تلك الأجور لا يتجاوز 80 - 90 دينارا بحرينيا.

الحكاية الثانية، وردت قبل أيام في صدر الصحافة المحلية، إذ تشير إلى انهيار منزل قديم في إحدى قرى البحرين فوق عامل باكستاني أثناء عملية هدم البناء، وكانت النتيجة وفاة العامل في الحال بسبب الإصابات الخطيرة، أما من معه من العمال فقد لاذوا بالفرار هربا من موقع الحادث. لماذا؟ لأنهم بحسب المصادر يمارسون أعمال البناء من دون ترخيص ولا تأمين عليهم ضد حوادث العمل. بعبارة أخرى هم من عمال الـ "فري فيزا"! وبين هذا الحادث وذاك جاءت الحكاية الثالثة، لتخبرنا عن اعتصام 500 عامل آسيوي يعملون في إحدى الشركات المتخصصة في مجال صناعة الملابس الجاهزة التي يعول على عائداتها المحللون الاقتصاديون على المدى الطويل. الشركة بها مقر سكن جميع العمال، وهي تدار من قبل آسيوي "طبعا سمح له بإدارة أعماله بعد تطبيق سياسة السوق الحرة والمفتوحة". الاعتصام جاء نتيجة انتحار عامل من عمال الشركة، شنق نفسه في مروحة بإحدى غرف المجمع السكني بمقر الشركة، المصادر أكدت سوء معاملة صاحب الشركة لجميع العاملين لديه.

عند لملمة قصاصات الحكايات السابقة وغيرها الكثير، وتحليلها ثم إعادة تركيبها من جديد، إلى أي من الاستنتاجات نصل؟ على الأرجح سنصل إلى الحقائق الآتية: 1- هناك مستويات متدنية ومتخلفة، مهينة ولا إنسانية وصلت إليها أوضاع العمالة الأجنبية في مجتمعات دول الطفرة النفطية، وهي لا ريب تتقاطع مع افرازات العولمة وتداعيات انفتاح الأسواق وضعف أو غياب دور الدولة الضابط والرقيب على حرية تنقل ونشاط رؤوس الأموال. هذا التقاطع أدى إلى بروز مستويات عالية جدا من الجشع وغياب الضمير لدى النخب الاقتصادية بشتى قطاعاتها، وخصوصا المالية منها والتجارية. فمن وراء استثماراتهم وتدوير رؤوس أموالهم وإنشاء وتشغيل المجمعات التجارية والفنادق والمناطق التجارية والصناعية الحرة، يتخفى القبح وتطغى علاقة الاستغلال وسرقة عرق العمال وتمتهن كرامتهم حتى تصل بهم أراضي الشتات والهجرة إلى تفاقم حال الفقر والعوز والبؤس والشقاء والمرض والجوع. هل تداعى إلى مخيلتكم كم من العمال يسقط يوميا من أبراج ناطحات السحاب الباهرة أثناء تشييدها؟ وكيف استقبلت أسرهم جثثهم الهامدة وكيف يتم إعادة إنتاج الفقر والبؤس لأفراد أسرهم؟ 2- تشترك نخب المال والأعمال وتتواطأ معها الدول، في عدم التزامهم بأبسط الحقوق الإنسانية التي أقرتها الشرعة الدولية وناضل من أجلها عمال العالم، ومنها ما تبلور في بنود اتفاقات عالمية وتحديدا من قبل منظمة العمل الدولية بهدف حفظ كرامة الإنسان وصون حقوقه، ومنها: حق العمال في العمل وسداد الأجر المجزي، والحماية من البطالة والعوز وحق السكن والرعاية الصحية والتعليمية والتدريبية والضمان الاجتماعي، انطلاقا من مبدأ أن العمل ليس سلعة، وأن الفقر في أي مكان يشكل خطرا على الرفاه في كل مكان، فالإخلال بهذه الالتزامات يتكشف بوضوح تام من خلال حجم الفساد المستشري في هذه الدول، ومستويات انتشاره في أجهزتها الإدارية، فضلا عن ضعف تشريعات العمل المحلية وغياب القوانين الضامنة لمصالح العمال كونهم طرفا رئيسيا في العملية الإنتاجية.إذا العمال هم أول ضحايا عمليات التنمية والتطوير والإعمار وسيادة ثقافة الاستهلاك وأخلاقياتها اللإنسانية من تمييز عنصري وسخرة واستغلال وسرقة لجهد العمال ومتاجرة بهم وخصوصا تجارة الفري فيزا المنتشرة في كل دول المنطقة ويقبع خلفها الهوامير الكبار. 3- من المرجح أن المجتمعات الخليجية مقبلة على أزمات حقيقية ذات صلة بمدى احترامها للمعايير الدولية المتعلقة بتنفيذ بنود الاتفاقات الدولية للعمالة الأجنبية وكذا منظمة التجارية العالمية "الجات"، وإفساح المجال لشرعنة النقابات العمالية الوطنية منها والأجنبية، وما يتطلبه من التزام بتنفيذ مستويات الحد الأدنى من الأجور والضمانات الاجتماعية والصحية وغيرها مما جاء في ألف باء تلك الاتفاقات. 4- إن الاستقرار الاجتماعي شرط من شروط النمو الاقتصادي وأحد متطلبات العولمة، وبالتالي تستوجب الضرورة التاريخية حرية العمل النقابي الذي يعد حقا أصيلا للعامل، ومنه تتشكل النضالات المطلبية لصالح العمال وما له علاقة بسداد الأجر العادل والسكن اللائق والضمانات الصحية والاجتماعية وضد العوز والشيخوخة وإصابات العمل... إلخ. هذا طبعا لا يتحقق من دون اللجوء إلى الوسائل النضالية السلمية المتعارف عليها دوليا، ومنها الحق العام في الإضرابات والعرائض والاعتصامات. إلى ذلك تبرز الحاجة إلى بلورة علاقة تفاوضية سليمة بين طرفي الإنتاج، العمال وأصحاب الأعمال، وتكون الدولة فيها طرفا موضوعيا وحياديا دورها المحافظة على مصلحة الطرفين لا مصلحة أرباب الأعمال فقط. 5- شيوع حالات الانتحار بين صفوف العمال الأجانب وخدم المنازل، تعبير صارخ عن أسلوب السطوة والعبودية الممارس بحق هؤلاء، وهو يعكس مستوى اليأس واحتقار الذات وفقدان الإحساس بالقيمة الذي يصل إليه الإنسان عندما تمتهن كرامته ويصبح ألعوبة أو مجرد رقم ليس ذي قيمة إلا بعمله وجهده المتواصل لصالح الطرف المستغل. مجتمعاتنا وقوانيننا كلها إذا مسئولة عن تلك المشانق التي ينصبها العمال البؤساء لأنفسهم في المراوح الكهربائية. أبعد ذلك نعجب ونسأل: لماذا يحتقروننا ويكرهوننا؟ فما خلف هذا الزيف العمراني إلا كارثة بانتظار مستقبلنا وطوفان سيكسحنا إن لم نصلح الأمور عاجلا لا آجلا، وتذكروا بيت شعر مظفر النواب: "فالجوع أبوالكفار"! * كاتبة بحرينية

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 947 - السبت 09 أبريل 2005م الموافق 29 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً