العدد 4693 - الإثنين 13 يوليو 2015م الموافق 26 رمضان 1436هـ

الحر العاملي... وتراث علماء البحرين

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

لعل واحدةً من أروع الصفحات التي زيّنت كتاب تاريخ بلدنا هي الصفحة المتعلقة بالعلاقات العلمية التي ربطت بلاد البحرين بغيرها من حواضر العالم الإسلامي: بلاد الشام وفارس والعراق، فقد استطاعت هذه الجزيرة ضئيلة الحجم، خطيرة الشأن، أن تهييء لنفسها اسماً ومكانة كواحدة من المدارس التي أنجبت شخصيات علمية وأدبية اخترقت شهرتها السياج البحري للجزيرة، ووصلت إلى المدى الأبعد، إلى بلاد الهند وحدود الصين وعمق القارة السمراء في أفريقيا! ومتى؟ في القرن السادس والسابع عشر الميلاديين، أي قبل ما يزيد على أربعة قرون.

أمامنا واحدة من أبرز المحاولات التي أرّخت للوضع الثقافي والأدبي في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) في جبل عامل (لبنان) والعالم العربي والإسلامي، وهي تجربة الشيخ محمد بن الحسن المشغري (ت 1692م/ 1104هـ) المعروف بـ «الحر العاملي»، وذلك من خلال جهده الريادي في كتاب «أمل الآمل». ولقد شمل الحر العاملي في كتابه البحرين وعلماءها وشعراءها بعناية خاصة، مبعثها أمران: استفادته من بعض علماء البحرين وأخذه العلم والحديث عنهم، وإدراكه ثانياً للخصوصية العلميّة لهذه الجزيرة، واستطاع العاملي في كتابه أن يوثق تراجم أربعين عالماً من علماء البحرين كانوا يمثلون صفوة المجتمع العلمي وأكثرهم شهرةً ونبوغاً.

لقد اهتم الحر العاملي في كتابه بمستويين من التوثيق؛ الأول توثيق رواة الحديث، ففي مقدمة «أمل الآمل» يقول: «أحمد الله الذي رفع منازل الرجال على قدر روايتهم لعلوم النبي والآل». أما المستوى الثاني فقد حرص فيه على ترجمة «العلماء الشعراء» الذين يخصّهم بتقدير كبير، ذلك أنه يرى أن الشعر «نوع كمال في الجملة»، وأن العالِم الشاعر «أفصح تقريراً وأحسن فهماً لدقائق المعاني وأعلم بنكات الكلام، وأشدّ تحقيقاً وتدقيقاً من العالِم الذي ليس بشاعر».

وقد تألف كتاب الحر العاملي من قسمين، الأول «أمل الآمل في علماء جبل عامل»، والثاني «تذكرة المتبحرين في العلماء المتأخرين»، والمقصود المتأخرون عن زمن «شيخ الطائفة» أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 1068م/ 460هـ)، ويضيف إليهم بعض المعاصرين له ومن قارب زمانه. وفي القسم الثاني من الكتاب، ضمّن الحر تراجم علماء البحرين الأربعين، على أن القسم الثاني من الكتاب كما قال هو: «يليق أن يكون متمماً للكتاب الكبير في الرجال للميرزا محمد علي الاسترابادي». لكنه فيما يخص علماء البحرين وجدناه يعتمد على كتابين رئيسيين: كتاب «سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر» للسيد علي خان المدني (ت 1708م/ 1120 هـ)؛ فعبارة «وقد ذكره صاحب السلافة وأثنى عليه وذكر له أشعارا»، تتكرّر في ثنايا الكتاب بشكل ملحوظ.

أما الكتاب الآخر الذي استفاد منه الحر فهو «فهرست» منتجب الدين علي بن بابويه الرازي، من علماء القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، والذي نقل كل مضامينه في «الأمل». غير أن الرافد الأهم الذي استقى منه الحر معلوماته فيما يخص علماء البحرين كانت الخبرة والمعايشة؛ ذلك أن الحر عاش في وطنه أربعين سنة، فيما الثلاثة العقود الأخرى قضاها في الارتحال لطلب العلم والحج وزيارة مراقد أئمة أهل البيت النبوي في العراق وإيران التي استقر فيها بشكل نهائي في أواخر حياته، بعد أن تولى منصب شيخ الإسلام وقاضي القضاة، وباشر مهامه في التدريس بالصحن الرضوي إلى أن توفّي وله من العمر واحداً وسبعين عاماً.

ارتبط الحر العاملي إذاً بعلماء البحرين، وهي صلة نرى لها أمثلة عديدة في التاريخ الثقافي والعلمي المشترك بين البلدين، وكنت قد أشرت إلى بعض حلقات هذا التاريخ في مقالات سابقة، والذي يمثل الحر واحداً من أجمل مشاهده الزاهية ولوحاته العامرة بالأصالة والحب. وقد دفع التعلق بأرض جبل عامل أحد العامليين الهاربين من البطش العثماني أن يطلب من الشيخ يوسف البحراني (ت 1772م/ 1186هـ)، وكان هذا الشيخ يهم بوضع كتابه المعروف بـ»الكشكول»، بأن يدرج في هذا الكتاب لائحة بأسماء قرى وبلدات جبل عامل، وقد نظم هذا العاملي لائحة ضمت حوالى مائتي بلدة راجياً من الشيخ البحراني الدعاء لأهل جبل عامل بالتوفيق. (كشكول البحراني ج1، ص 428).

يروي الحر العاملي أنه التقى بالشيخ جعفر بن كمال البحراني في مكة بالحج، كما يذكر السيد جمال الدين الحسيني البحراني، ويقول أنه «شاعر أديب ماهر معاصر»، ويستعرض له أبياتاً شعرية كتبها للحر السيد جمال الدين. وعند حديثه عن السيد ماجد بن محمد البحراني يذكر بأنه كان «عالماً جليل القدر»، ويذكر أبياتاً شعرية كتبها الحر للسيد ماجد، كما يقول أنه رثاه بعده موته ببيتين من الشعر يوردهما في الكتاب. وحين يأتي الحديث عن السيد هاشم البحراني (ت 1107هـ / 1695م) يصفه بـ «الفقيه العارف بالتفسير والعربية والرجال»، ويقول:»رأيته ورويت عنه»، وعلى هذا يعد السيد هاشم البحراني من أساتذة وشيوخ الحر العاملي.

ولا يفوت الحر العاملي أن يشير إلى التراث العلمي المخطوط الذي عاينه ووقف عليه في بلاد إيران، فعندما يتحدث عن الشيخ حسين بن أبي سروال الأوالي، يصرّح بأنه قد رأى له كتابين في خزينة الكتب الموقوفة في مشهد الرضا (ع) بخط المؤلف، إضافةً إلى وقوفه على بعض الدواوين الشعرية لبعض علماء البحرين. وحيث أن منهجية الحر قد اختلفت في كتابة التراجم في القسم الثاني عن طريقته في القسم الأول؛ فبينما كان يهتم بالتوسع في الترجمة وذكر النقاط المهمة في القسم الأول، عمد إلى الاختصار الشديد في القسم الثاني، بحيث لم تكن التراجم تتجاوز السطرين أو ثلاثة أسطر، متجاهلاً بذلك تاريخ الميلاد والوفاة والنقاط المهمة التي كان من اللازم ذكرها، وهذا ما انعكس بشكل سلبي على طبيعة المادة العلمية التي قدّمها حول علماء البحرين، خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين التقى بهم بشكل مباشر.

كان الحر شديد الأنفة، ومن طريف ما حُكي عن المنزلة العلمية والدينية التي حظي بها في إيران، أن الشاه اسماعيل الصفوي أراد اختبار جرأته في الحفاظ على كرامة العلماء وإعزاز العلم، فسأله وهما جالسان وبينهما مسند يتكئ عليه: ما الفرق بين الحر والخر (وكلمة «خر» معناها الحمار بالفارسية)؟ فأجابه في الحال «مسند واحد» فحسب! ومن يومها لم يمش الشاه إلا والشيخ أمامه.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4693 - الإثنين 13 يوليو 2015م الموافق 26 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:44 ص

      الحمدلله على نعمة الولاء لمحمد وال محمد

      نشكر علماء العاملين على جهودهم لرفعة الدين والمسلمين وكل من قام باسنادهم

    • زائر 3 | 2:26 ص

      موضوع بغاية الأهمية

      هناك من هم في الوطن يجهلون موقع هذه الأرض المباركة علميا وأدبيا وثقافيا واقتصاديا وتاريخيا لأنهم لا يقرؤون كتب الطرف الأخر
      فعسى أن يستفيدوا من كتابات هذا الأستاذ المثقف الذي يلخص الموضوعات بطريقة جميلة
      شكرا لك أستاذ وسام وننتظر المزيد
      آه عليك يا بحرين يا أرض العلم والفكر

    • زائر 7 زائر 3 | 7:50 ص

      ممتن

      ممتن لك ياصديقي

    • زائر 2 | 12:33 ص

      وسام البحرين

      شكرا لهذه الجهود اخي وحبيبي وسام السبع ياسبع الجزيرة العلميه على هذه المقالات الرائعة التي اتمنى أن تتبنى جريدة الوسط مشكورة نشرها بعد الجمع في كتاب خاص من اعماق قلبي لك الشكروالدعاء الخالص

    • زائر 6 زائر 2 | 7:15 ص

      الشكر الجزيل

      الشكر الجزيل على هذه الكلمات العذبة.. شكرا لثقتك وحبك.. سأعمل على ذلك بحول الله. الكاتب

    • زائر 1 | 10:47 م

      أحسنت

      بارك الله فيك

    • زائر 5 زائر 1 | 4:31 ص

      شكرا

      شكرا لمرورك الجميل

اقرأ ايضاً