العدد 4693 - الإثنين 13 يوليو 2015م الموافق 26 رمضان 1436هـ

أعلام في التسامح والسلام... مها القيسي فريموت

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

ليس غريباً بروز عدد مهمّ من النساء الباحثات في مجالٍ طويلاً ما كان حكراً على الرجال، مجالِ فقه النساء في الإسلام خصوصاً، ومجالِ قراءة النص الدينيّ عموماً؛ فقد شهدت العقود الأخيرة ظهور زمرة من الباحثات سواء المقيمات في بلدانهن مثل الباحثة التونسية الدكتورة ألفة يوسف أستاذة الآداب والحضارة العربية بجامعة منوبة بتونس، والتي لفتت الانتباه إليها خصوصاً من خلال كتابها «حيرة مسلمة»؛ أو الباحثات المهاجرات على غرار باحثة الدين الإسلامي في المجال النسوي المصريّة ليلى أحمد والتي تُدرِّس في الولايات المتّحدة الأميركية؛ أو الباحثة مها القيسي فريموت، أستاذة العلوم الدينية الإسلامية في جامعة إيرلانغن نورمبرغ الألمانية، وصاحبة مشروع إصلاحي من داخل الدين الإسلامي والتي نختارها اليوم نموذجاً وعَلََماً من أعلام التسامح.

تدعو باحثة الدين الإسلامي مها القيسي إلى تحرير التفسيرات القرآنية من قفص التأثر بالعادات الثقافية؛ فقد انصرفت همّتها إلى البحث المعمّق والمنفتح في مجال الفقه الإسلامي النسوي في الجامعات الألمانية، حيث تهيّأت لها الفرصة هنالك، وبعيداً عن التحجّر الفكريّ والتعصب الدينيّ، لتدارس قضايا وآيات قرآنية كثيراً ما كانت مثار جدل بين الفقهاء والمجددين.

وقد تأثّرت مها القيسي في أبحاثها بشكل لافت بقراءات جيل من المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين كان لهم الأثر الكبير في تطوير مقاربة النص الديني مثل علي شريعتي وعبد الكريم سروش، وكذلك نصر حامد أبو زيد في مصر، ومحمد أركون ضمن سياقه الأوروبي، بالإضافة إلى فريد إسحق في جنوب أفريقيا. وتعتبر أنّ جميع هؤلاء- وكذلك الكثير من المفكرين المسلمين الآخرين- يحاولون إيجاد فهم متجدّد للإسلام وصياغته صياغة تقدّميّة، تنأى به عن الفهم الواحد «الصحيح» والقراءة الدوغمائية المتكلسة. وهو المشروع الذي تعمل من أجله القيسي، حيث أنّنا «اليوم في أمس الحاجة إلى إصلاح في داخل المنظومة الفكرية الإسلاميّة، بغية تمكين الإسلام من التعبير عن ذاته في عالمنا المعاصر بكلّ مشكلاته الراهنة» على حدّ تعبيرها.

وقد منح مناخ البحث العلمي الجامعي في ألمانيا للأساتذة الجامعيين المتخصصين في تدريس الفقه وأصول الدين الإسلامي، فرصةً كبيرةً من أجل تأسيس إسلام بتوجهات إصلاحية، واعتبرت القيسي مشروع إصلاح الإسلام الذي تقصده «عملية مشابهة لعملية الإصلاح التي شهدتها الديانة المسيحية»، وأضافت: «وعلى هذا النحو نفهم عملنا العلميّ في قسم الدراسات الإسلاميّة DIRS في جامعة إيرلانغن؛ فنحن لا نرفض ما كتبه العلماء، أي الفقهاء التقليديين، على مرّ قرون من الزمن حول القرآن الكريم والإسلام، بيد أنَّنا بالإضافة إلى ذلك نحاول التفكير وصياغة مقولات جديدة ملائمة لعصرنا هذا».

وتقول الباحثة القيسي موضّحة مشروعها: «نحن نريد في جامعة إيرلانغن دعم مختلف أشكال الإسلام الإصلاحي. ولكن من الممكن أن تأتي هذه المناهج الجديدة من المدارس التقليدية أو العقلانية أيضاً. إذ إنَّ تاريخنا الأكاديمي الطويل غني جداً بمختلف الاتّجاهات والمذاهب الفقهية».

هذا إذاً هو مشروع جيل من الباحثين والباحثات: تنزيل مقولات علماء الدين أو الفقهاء التقليديين في سياقها التاريخي والاستفادة منها، ثمّ الإقرار بأنها غير قادرة على مواكبة التحولات في عصرنا، ومن ثمّة يغدو التفكير في صياغة مقولات جديدة تتلاءم واحتياجات القرن الحادي والعشرين ضرورة لا بد أن ينهض بها المجددون والمجتهدون.

في هذا السياق انشغلت الباحثة القيسي بفهم مكانة المرأة في الإسلام، فمثلاً يدور موضوع الآية الثالثة والخمسين من سورة الأحزاب -في نظر الباحثة- حول كيفية تصرف المؤمنين عندما تتمّ دعوتهم إلى الطعام لدى النبي (ص)، ولا تحتوي هذه الآية على أي حكم حول سلوك النساء، بل تحتوي على إرشادات للضيوف وأدب الضيافة. كما انعقدت أبحاثها على فهم القرآن الكريم فهماً معاصراً؛ ففي نظرتها إلى الأحكام الشرعية دعت أولاً إلى ضرورة تحديد إن كانت هذه الأحكام أصلاً من القرآن الكريم بالذات أو من أحد المفسّرين المتأثرين بثقافة عصره.

ولا يخفى على مها القيسي صعوبة إنتاج هذا الفكر أو هذا الشكل من الفقه الإسلامي في العالم العربي والإسلامي، باستثناء بعض الدول في المغرب العربي أو تركيا، إضافةً إلى مصر ولبنان وسورية، حيث يوجد عدد لا يستهان به من العلماء المسلمين والمفكرين التقدّميين الذين يستندون إلى المدارس العقلانية في الإسلام.

إنّ هذه المشاريع التنويرية تأتي في سياق مواجهة خطاب العنف والتحجّر الذي تتبنّاه الجماعات المتطرفة دينياً ومذهبيّاً، لذا لا بد من إبراز جهود هذه النخبة من الباحثين، والتسامح معهم في إخراج اجتهاداتهم إلى العلن والإيمان بقدراتهم نساءً كانوا أو رجالاً، في تنوير الساحة الدينية التي هيمنت عليها الجماعات المأزومة، والّتي أتاحت لها وسائل الاتّصال الحديثة القدرة على التّواصل والوصول إلى داخل البيوت، والتّأثير في العقول الصّغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء. هذه الجماعات ذات السطحيّة في الفكر والمعايير وذات المقاربة الأحادية للواقع رغم تعقده وتشابك مكوناته، والتي تتوسّل للمحافظةَ على ذاتها بممارسة الإلغاء وإقصاء الآخر بالخطاب العنفيّ نفسه، أو بممارسة العنف وصولاً إلى القتل وسفك الدّم، لا يمكن التصدي لها أمنياً فقط، وإنما يجب محاربتها على جميع الواجهات وخصوصاً دحض خطابها التكفيري وأسلوبها العنفيّ من خلال نشر آراء المجددين والباحثين المفكرين المتسامحين.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4693 - الإثنين 13 يوليو 2015م الموافق 26 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً