العدد 4732 - الجمعة 21 أغسطس 2015م الموافق 07 ذي القعدة 1436هـ

ماذا كتبوا عنا؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جيرتروود بيل. ربما سمعنا عنها باعتبارها مُستكشِفَة وعالِمة آثار إنجليزية لكننا لم نسمع عن شخصيتها السياسية كما يجب، عندما كانت تعمل مستشارةً عند بيرسي كوكس (1864 - 1937)، وهو المندوب السامي البريطاني خلال عشرينيات القرن الماضي في العراق. وعندما نقول مندوب سامٍ بريطاني وخلال تلك الفترة وفي العراق، فهذا يعني أنها كانت تعمل ضمن أهم مركز استعماري في الشرق الأوسط آنذاك.

عَرَف العراقيون جيرتروود بيل جيداً، حيث عاشت معهم سنوات طويلة، وساهمت في صياغة شكل الدولة العراقية ما بعد الاستقلال وبناء النظام الملكي فيها. وقد جابت العراق من أقصاه إلى أقصاه، وعندما توفيت دُفِنَت في العراق، وكُرِّمت في جنازتها بحضور الملك وكبار رجالات الدولة. لكن جزءًا مخفياً حُجِبَ عن هذه المرأة الانجليزية القوية، وهو مراميها من كل ذلك البحث والتنقيب ومعرفة تفاصيل التفاصيل في الحياة السياسية والاجتماعية للشرق بعمومه.

كان الغربيون يُصادقون الشرقيين لا كي يَصْدِقُوهم، وإنما من أجل أن يفهموهم. وعندما يُفهَم الإنسان تُفهم معه شخصيته وميوله وتوجهاته وطموحاته وبيئته وعلاقاته الاجتماعية. وعندما يُفهَم كل ذلك، لا يُصبح موضوع السيطرة عليه أمراً صعباً، إذا ما أضِيفَ إليه فارق القوة والإمكانات بين غربي متقدم وشرقي يكابد النهوض. لكن السؤال: كيف كانوا يفهموننا، وماذا كانوا يصنعون بذلك الفهم؟ هذا هو السؤال المركزي، الذي بسببه تأملت في أمر بيل.

الحقيقة أن الغربيين ومنذ أن أتوا إلى هنا، كانوا يكتبون عنا كل شيء، ويدرسون ما عندنا بشيء لا يُوصف من الدِّقة، في بيئة قاسية تحتاج إلى صبر خرافي، حيث الصحراء ودرجات الحرارة المرتفعة. كانوا يصفون طريقة لبسنا وتحيتنا لبعضنا، وكيفية فضّ الاجتماعات أو التجمعات أو اللقاءات في المجتمعات القبلية والعشائرية بعد إحضار «مباخر»... «يُلوّحون بها أمام كلٍّ منا ثلاث مرات».

عندما ذهبت جيرتروود بيل إلى إيران قبل 123 عاماً تعلَّمت الفارسية، وترجمت أشعار حافظ الشيرازي (1325– 1389) الصعبة. وعندما جاءت إلى الجزيرة العربية والأردن وفلسطين ولبنان وسورية والعراق تعلَّمت اللغة العربية، وكَتَبَت 1600 من رسائلها ويومياتها، ووُضِعَت في أسفار بلغت 16 مجلداً، مع 40 كُتيِّب و7000 صورة.

في الكتاب المعنوَن بـ «رسائل جيرتروود بيل 1899– 1914»، والذي ترجمه رزق الله بطرس، نطالع جزءًا من تاريخنا العربي والشرقي الذي ربما لم نحفظه عن أنفسنا رغم أننا أبناء هذه الأرض. فالغربيون يُدوِّنون لأنهم يعتقدون بأن الاعتماد على الذاكرة هو عملٌ لا حظَّ له في مواجهة التاريخ وأحداثه وإثبات الوجود. لذلك، عندما قدَّمت دير ماونت غريس للكتاب في هيئته الإنجليزية، عدَّدت الجهات التي أعطتها ما كتبته جيرتروود بيل، ولولا ذلك لم يكن شيء سيتم معرفته، فالتدوين جزء من حضارة الغرب وقوته.

غاية الأمر الذي يفيدنا من ذلك، أنهم يقرأوننا جيداً قبل كل شيء، ثم يخيطون أرضنا بالوصف. أنا لا أتحدث عن الأميركيين الذين قد لا يجيدون قراءة الأمور بشكل جيد، كما جُرِّبوا في العراق وأفغانستان، لكنني أتحدث عن الانجليز وعن الفرنسيين والأسبان قبلهم. كانوا يقرأون الأرض التي يأتونها، وقبل ذلك، يدخلون في أعماق ناسها. وكانت جيرتروود بيل على هذا السّمت، فتراها أحياناً تَصِفُ عشاءً بذات الأهمية التي تصف فيها وقائع الاجتماع التاريخي الذي تقرّر فيه تعيين الأمير فيصل ملكاً على العراق، والتي ساهمت هي فيه شخصياً.

كَتَبَت في الـ 13 من يناير/ كانون الثاني 1899، رسالة تقول فيها وهي تصف فندق أورشليم: «ها أنذا مقيمة هنا مرتاحة جداً. أنا على بعد مسيرة دقيقتين من القنصلية الألمانية. تتألف شقتي من غرفة نوم جيدة جداً. وغرفة جلوس كبيرة تتصلان بردهة صغيرة تقود بدورها إلى الشرفة التي تدور حول الطابق الأول من فناء الفندق الذي يحوي حديقة صغيرة. خادمي رجل لطيف يرتدي طربوشاً يُحضر لي الماء الساخن في الصباح، وهو مستعد في جميع الأوقات للانطلاق بسرعة في خدمتي».

ولو تمعنا في النص المذكور، سنرى أنه أشبه بالتقرير، حتى ولو أخذ طابعاً وصفياً روائياً. ولو كَتَبَ ذلك شخص غير بيل لكان الأمر قابلاً للتأويل البريء، إلاَّ أنها هي الكاتبة، وهي الموظفة عند المفوضية السّامية لأكبر امبراطورية آنذاك، فلا يمكن أن يُؤخذ ببراءة زائدة.

كانت تصف القدس قبل وعد بلفور بـ 18 عاماً بشكل غريب، حين كانت تقول: «انطباع المرء الأول عن القدس مثير للاهتمام جداً، لكن ليس سارّاً. الجدران عظيمة من طراز إسلامي على قواعد يهودية. لكن كل الأماكن المقدسة كانت مُشوّهة كثيراً لأنها بُنِيَت على كنائس فظيعة لمختلف الطوائف». وهنا يُمكن التأمل في كل هذا الرّصد الدقيق، وماذا كانت تريد من ذلك وإلى مَنْ تشرح، وكيف أن هذا الانطباع أصبح في طريقه نحو التشكُّل في وعاء سياسي استعماري سرق فلسطين من أهلها. هذا ليس هَوَساً بل أمر واقع وتاريخ مكتوب.

خلال المراسلات التي قدَّمتها جيرتروود بيل، تكتب عن الرمادي والنجف ودمشق وحائل وغيرها بشكل دقيق جداً، يجعل المرء يتصوَّر الأشياء كما هي. وإذا ما علمنا أن بيل عاشت في الفترة التي لم يكن فيها أقمار صناعية ولا وسائل اتصال متطورة، فإن الاعتماد كان على الرَّصد المباشر من خلال أمثال بيل. كانت تصف الجِمَال والبغال وقطاع الطرق والبحيرات الوهمية والعشائر وعادات وطريقة تحدّث الناس، وكل ما يتعلق بالإثنوغرافيا، حيث كان ذلك الأمر مفيداً لهم كثيراً.

في المحصلة، فإننا مُلزَمون أولاً كعرب وكشرقيين أن نقرأ ما كتبه الآخرون عنا، ثم نقارب ذلك مع الممارسات التي تمَّت. فذلك مفيد لنا كي لا تكون رؤيتنا للمستقبل بريئةً أكثر مما يجب.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4732 - الجمعة 21 أغسطس 2015م الموافق 07 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 2:05 م

      مقالات تنويريَّـــة

      الكلمة الصادقة المخلصة .. و مُضافٌ إليها حقائق التاريخ ، مختومةً بنصيحة عقلانيَّة ..
      أحسنت القول و المقال .. شكراً أستاذي ..

    • زائر 11 | 6:04 ص

      تسلم استاذ

      من أفضل الكتاب أستاذي .. دمت موفقا

    • زائر 8 | 4:03 ص

      مقال رائع

      مقالك رائع ابو عبد الله. هذا يدل على عمق الثقافة لديك وهذا ما نفتقده في كثير من الكتاب والصحفيين

    • زائر 9 زائر 8 | 4:14 ص

      صح

      فعلا

    • زائر 7 | 3:05 ص

      أحسنت

      ليس هناك صلة بين البراءة والغرب
      شجعتني على قراءة ما كتبته بيل

    • زائر 6 | 2:14 ص

      باختصار شديد

      لأنهم يمتلكون رؤية مشروعا هدفا غاية في المقابل نحن لا توجد لدينا ما لديهم

    • زائر 5 | 1:34 ص

      اتمنى ان تكتب المزيد

      من المقالات حول ما كتبت عنا بيل

    • زائر 4 | 1:25 ص

      اتفق

      فعلاً أصبحت ثقافة اغلب الناس عبارة اخبار ومعلومات كاذبة ياخذونها من الواتس اب وتركوا الاطلاع على الكتب والوثائق لانها تحتاج لجدية وتعب والاغلبية لا تريد هذا

    • زائر 3 | 1:14 ص

      الكاسر

      انت تطلب من العرب القراءة
      الكتب مجرد ديكور موجودة على الرفوف وحل مكان القراءة الوتس اب تويتر فيس بوك

    • زائر 2 | 12:50 ص

      جميل جدا

      مقال رائع جدا .. دام قلمك

اقرأ ايضاً