العدد 4785 - الثلثاء 13 أكتوبر 2015م الموافق 29 ذي الحجة 1436هـ

تحتاج إلى شجاعة كبيرة كي تحبَّ بصدْق وقلق أيضاً

فؤاد شهاب في «حبيبتي ابنتي سمَّيْتها مريم»...

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليست كتابة ذاتية هي. تتجاوز ذلك بكثير. بكمِّ الصدق الذي فيها. بكمِّ الدفء الذي يُمكنك أن تراه قبل أن تحسَّ به. كتاب البروفيسور فؤاد شهاب «حبيبتي ابنتي سمَّيْتها مريم»، فيه الكثير من الشجاعة. ويحتاج أي منا إلى شجاعة كبيرة كي يحبَّ بصدق وعفوية أيضاً. شهاب فعل ذلك. عن شجاعة يصدر الكتاب، وليس عن نوازع وتهويمات في النفس. عن تجربة فيها من الانتظار والأمل والصبر والتطلُّع الكثير. بحجم القلق الذي لا حدَّ له، ذلك الذي رافق تجربته مع مريم. في الكتاب أيضاً شجاعة، أن يكتب الأب بما يشبه الانحياز الذي لم يتبرَّأ منه، في علاقته مع ابنته، بوجود أبناء آخرين. يحتاج ذلك إلى شجاعة من حيث عدم الإخلال بحصَّة أي منهم، مع الاحتفاظ بتلك المساحة من التحيُّز الذي له مدعاته وبإلحاح. له ظروفه التي استدعت مثل صبِّ ذلك الحبِّ صبَّاً. إنه جزء من العلاج. الحب علاج أساساً!

هل هو قصة البحث عن حق الكلام؟ عن اكتمال الطفولة ليوم ستكبر فيه؟ هل هي سيرة البحث عن الاستواء في ظل عِوَج - أو ما يشبهه - قائم؟

«قصة الحب التي أقدِّم لها تنطوي على هذين الشرطين المهمين: المشقة الفائقة، والمغامرة الخطرة». وأذكِّر هنا بـ «الحب».

«لماذا تأخرت مريم في نطق كلماتها الأولى»؟ ولدت صمَّاء.

الكلام أول بصمات الإنسان في هذا العالم. الصوت هو جواز مرورنا إليه. العلاقات في هذا العالم لم تنشأ عن الإشارة. نشأت عن الصوت. ولو كان الصوت في وجه من وجوهه إشارة وعلامات. ولو قامت علاقات بالإشارة أيضاً.

في قرارة النفس أن «مريم» ولدت لتسمعَ ولِتُسمِعَ العالم صوتها. كل «مريم» حضور وصوت أيضاً. إذا ما انحاز أحدنا إلى لغة الشعر.

في رحلة البحث عمَّا يقيم الخلل الذي سيزول، مشقة وعذابات وقلق بامتداد العالم الذي بدا لا معنى له، مادامت «مريم» ليست في قلب صوته وحركته.

في حضرة الضراوة

أسماها شهاب «الضراوة» «ضراوة مغادرة وطن وتمزُّق أسرة». بين الدرس الجامعي الذي يسعى إليه، ودرس ترتيب الحياة لـ «مريم» والنأي في بلاد الله بحثاً عمَّا يعيد الصوت من غربته ليسكن «مريم».

في احتجاز سفر الأب. في الانقطاع عن الدراسة. العمل العابر حتى العودة إلى الجامعة من جديد. محطات لا يمكن أن تكون بمعزل عن مريم و «كلامها». في السيرة المزدوجة تلك نحن أمام درس بليغ من الوقوف بيدين عاريتين، ولكن بقلب ملؤه أكثر من أداة وسلاح، وأهمها: الحب. بقدرته السحرية على نفخ الروح في ما يبدو عدماً وعلى توأمة مع المستحيل.

تحمل الولادة الأولى فرحاً لا حصر ولا وصف له. ينقص شيء من ذلك الفرح؛ قليلاً كان أو كثيراً، حين تأتي الولادة بتحدٍّ ما. بنقص ما أيضاً. مواجهة ذلك التحدِّي النقص، هو ولادة أخرى، في شكل أو آخر. والنقص هنا بمعنى الغياب والافتقاد والضرورة. كيف يمكن أن يحضر الأب والأم بشكل كلِّي لوضع حدٍّ لذلك النقص في الفرح الذي بدأ. يحتاج ذلك إلى سنوات. والولادة لحظات بالدخول... بالانضمام إلى سكَّان هذا الكوكب. سنوات طوال. بحث مضْنٍ، إرادة لا تتوقف ولا تريد أن تفعل ذلك. بينها وبين المستحيل، تلك العداوة التي ستعمِّق الحب لـ «مريم».

«أصبح كل اهتمامنا منصبَّاً على مريم وحديثنا لا يُركِّز إلا على مريم... متى نامت... كيف كان نومها... طعامها... حركاتها... صحتها وسؤال الأهل جميعاً عن مريم... والكل كان ينتظر نطْق مريم، ونحن نعرف؛ كما علَّمتنا العادات والتقاليد أن النطق مسألة طبيعية، وأن مريم لابد أن تنطق عندما يحين الوقت بعد سبعة أو ثمانية أو تسعة أشهر على الأكثر (...) إذاً كنا ننتظر كلمتيْ بابا وماما على أحرّ من الجمر».

ذلك الاصطراع النفسي المتدافع أمام حالة مريم، درس آخر في التغلُّب عليه؛ وصولاً إلى حال استقرار ستتبيَّن خطوطها في سنوات لاحقة، يحصد فيها الأب (شهاب) والأم (نادية) ثمرة ذلك الإصرار الباعث على الإعجاب والدهشة في الوقت نفسه.

المخارج من القلق

«الضغط النفسي الذي عشناه ضاعف الضغط الأُسَري والمجتمعي، فتحوَّلت حياتنا الهادئة الجميلة إلى قلق دائم حول مستقبل الحبيبة مريم».

هو ذاته الحب بشجاعة وصدق وقلق، ذلك الذي يذهب إليه العنوان الفرعي لهذا الاستعراض. من القلق نفسه يبحث الإنسان عن مخارج وحلول، وتتفتق ذهنيته عن اجتراح المعجز في كثير من الأحيان. بالقلق والحب والشجاعة معاً تتبدَّل مسارات، وتتحدَّد مصائر، ويولد واقع جديد غير الذي هو قائم وجاثم على النفس والروح والجسد.

ليست سيرة واحدة. ليست سيرة «مريم» وحدها. سيرة الأب في عذاباته التي كان متيقناً أنها ستثمر عن الكلام الذي يبحث عنه: كلام مريم. سيرة «نادية» الأم التي لولا المركز من حضورها في حياة الأسرة الصغيرة، لما كان عبور واجتياز كل الأزمات والأحداث الهائلة التي مرَّت، ممكناً.

مسافة كأنها البرازخ بدت. لكن مريم جُبِلَتْ، ووجدت لتتعلَّم درسها، رفقة والديْها. «أقبلت مريم على التعلُّم بنَهَم. تقضي يومها من صباحه حتى المساء في التعلُّم، وانتقلت من المعهد إلى روضة أطفال. كانت تستيقظ وحدها في الخامسة فجراً لتمارس الاندماج في هذا المجتمع الصغير، رغم تعكير بعض صفوها الناتج عن احتجاج عدد من أولياء أمور الأطفال في الروضة على وجود مريم (...)».

رحلة لندن «برعاية رجل الأعمال المصري محمد الفايد، فتحت أفقاً يبدِّد كل أفكار الجهل المجتمعي. فبعد فحوصات عند طبيب إنجليزي كبير بتوصية من الفايد لقياس ذكاء مريم، يقرِّر الطبيب أن مستوى ذكائها فوق المعتاد».

ولذلك قصة «في أحد الأيام اتصل بي صديق من لندن هو حسن فخرو يخبرني بأنه وأثناء تناوله الطعام مع صاحب محلات هارودز محمد الفايد، تحدَّث له عن مشكلتي مع ابنتي... فتبيَّن له أن حفيد محمد الفايد عانى من المشكلة نفسها، ونصحه بأن أعرض ابنتي على الطبيب البريطاني فرانكتون بمانشستر في المملكة المتحدة. وبالفعل قام مكتب الفايد بكل الترتيبات بذهابنا إلى مانشستر».

امتحان الذكاء الذي أجراه الطبيب فرانكتون، وكما يقول البروفيسور شهاب، كان بمثابة خريطة الطريق. جرعة الأمل التي تلقوها منه قبل الامتحان «ابنتكم مريم تعاني من ضعف شديد في السمع؛ إلا أنها تتميَّز بذكاء كبير، فلو عملتم معها بجِدٍّ واجتهاد فستنقلونها من عالم الصمت إلى عالم الكلام... ولديَّ الآن في قسم الطب فتاة كنت أعالجها قبل ثمانية عشر عاماً».

أحبَّتْ مريم الكلام

«لم تمضِ سنوات قليلة حتى تكلَّمت مريم. نعم تكلَّمت مريم، واكتسب أبوها خبرة إنسانية لا تُقدَّر بثمن، وتقنيات نادرة في مشاكل النطق والسمع. لم تتكلَّم مريم فحسب؛ ولكنها أحبَّت الكلام».

في درس المعاناة تلك، قدرة عجيبة على إعادة صياغة الإنسان، موقفاً، واستعداداً، وإمكانات في تسخير أدواته؛ بل اختراعها إذا تطلَّب الأمر كي لا تفلت منه الشجاعة، وكي لا يتخلَّى عن الحبَّ الذي هو قيمته الحقيقية، وكي لا يتخلى عن صدقه في تعاطيه مع مشاعره ومع من حوله، ويحتاج إلى ذلك القلق الذي يجعله متحفزاً على الدوام، ومنتبهاً لأي تحول في الحياة قد يحشره في زاوية، فيما هو مستسلم لغفلته.

من القاهرة قُدِّر لذلك الكلام أن ينبعث «لماذا إذن نبقى في القاهرة؟ أليس الأجدى أن نعود إلى الوطن، وأن ندخل مريم التعليم الابتدائي هناك (...) عادت الأسرة بأفرادها الأربعة إلى البحرين. الذهول يغطي وجوه الأهل والجيرة والأصدقاء عندما فاجأتهم مريم ببلاغتها وألمعيتها التي تتجاوز سنها، وأخجلتهم من أنفسهم بسبب مواقفهم المُحبِطة قبل رحلتيْ لندن والقاهرة (...)».

بمثل تلك المناجزة. بمثل ذلك التحدِّي، وبمثل تلك الشجاعة، وبمثل ذلك الحب في أقصى درجات جرأته وصدقه، يمكن لأي «مريم» ألاَّ تقلق وألاَّ تشعر بأنها قذفت في هذا العالم لتكون فريسة للوحشة والعزلة وربما الأمراض.

أحبَّت مريم الكلام، لأن والدها... أمها أحبَّا لها الحياة التي تليق بها، وتليق بالحياة أيضاً.

بين اجتياز مريم للمراحل الدراسية الثلاث: الابتدائية، الإعدادية والثانوية، وصولاً إلى المرحلة الجامعية، كان محفوفاً أيضاً بالتحديات، وإن جاءت أخف وطأة، إلا أنها هناك، تُبرز ذلك الدور المدهش، والإرادة العصية على الانكسار، وتُبرز «مريم» أيضاً في دورها المقبل على الحياة بالحب والإصرار والتحدِّي.

التحديات لا تتوقَّف

يضيء شهاب جانباً من إرادة «مريم»، ولم تكن تلك التحديات في معزل عن ذهنه وهيمنتها على التفكير. «بفضل شخصية مريم التي لا تقبل بديلاً عن التفوُّق، وبمجهودها الذاتي، كما أنها صاحبة أحلام لا حدود لها»، لتنهي الثانوية العامة وبتقدير امتياز. سبعة عشر عاماً فصلت بين ذلك الحمل الثقيل، والهم الذي يكاد لا ينتهي، والقلق الذي أمضَّ الروح، والحب الذي لا يسعه العالم، ومن وراء ذلك كله: الشجاعة الجماعية التي تبدَّت في دور كل طرف.

وللالتحاق بالجامعة قصة عثرات يبدو أنها لا تريد أن تنتهي، بالرد الذي ورد إلى العائلة برفض الجامعة طلب التحاقها، وإصرار الأب وبحثه الدائم عن إكمال مشوار لم يكن سهلاً بلوغ مراحله التي تحققت بشق الأنفس. وكان للأب ما أراد بإلحاقها بإحدى الجامعات الخاصة، التي أبدت فيها الإصرار والتحدِّي نفسيهما، بإنهائها التعليم الجامعي بتفوُّق، وكما هي عادتها.

هذا كتاب لا يُقدِّم مؤلفه «مريَمه»، بقدر ما يقدِّم وصفة في الحب بشجاعة، والسعي بشجاعة، والثقة بشجاعة أيضاً. يقدِّم كل «مريم». يُقدِّم وصفة لكل عائلة وجدت نفسها في مهب تحديات لها أول وليس لها آخر، وعليها أن تستثمر مثل تلك التحديات لتثبت للعالم - على الأقل العالم المحدود من حولها - بأنها قادرة على الانعطاف بتلك التحديات، وإدخالها في إضبارة الماضي، بتراكم الإنجاز، والمضيِّ إلى الهدف، من دون أن يحول بينها وبينه ما يبدو من عوائق أكبر من تتحمَّلها طاقة إنسان من لحم ودم.

لا يسع الدخول في أبواب الكتاب جميعها، تناولاً وتفصيلاً واستعراضاً؛ بحكْم المساحة المخصصة لهذه الصفحة، ولإفراد مساحة لجانب من الصور التي شكَّلت ملحقاً مكمِّلاً، باعتبارها نصوصاً شاهدة على مرحلة زمنية، وتجربة إنسانية غاية في الروعة.

وهنا استعراض للعناوين التي ضمَّها الكتاب: الخطوبة، سنوات كالنُجيْمات، في القفص الذهبي، أهلاً مريم، الحقيقة المُرَّة، خارطة الطريق، في مهبِّ الريح، سلاماً لك يا مصر، الأسابيع الأولى في البحرين (أيام أحرُّ من الجمْر)، مريم في المعهد، بحرين يا حبيبتي، في المرحلة الابتدايئة، في المرحلة الإعدادية، في المرحلة الثانوية، وتكتمل الصورة، مريم تتزوَّج، عوْداً على بدء، خاتمة، ثلاث محطات مع مريم، أحببْتها مذ عرفتها، تجربة فريدة ورائدة من نوعها، مريم... قصة كفاح جميلة، طفلة متميِّزة وذكية، جزاكمُ الله خيراً، مريم نموذجاً، رأي حول تحدِّي الإعاقة، علَّمتْتنا مريم، ابنتي الغالية مريم، كم هي قوية هذه الفتاة، تشع حيوية، إلى مريم، هذه العاشقة للحياة، مجتهدة، مثابرة، واثقة من نفسها، قاهرة الصمت مريم، حقاً كانت شجاعة، لكِ المجد يا مريم، إلى ابنتي الغالية مريم، الأمل... صانع المستحيل، تلك هي مريم، عروستنا مريم، وغيرها من العناوين.

مع والديها في عيد ميلادها الأول
مع والديها في عيد ميلادها الأول
مريم في رحلتها العلاجية بمانشستر
مريم في رحلتها العلاجية بمانشستر
أثناء تسلُّمها الشهادة الجامعية
أثناء تسلُّمها الشهادة الجامعية
من اليمين: زوجها، وأختها، ومريم، والدها، أخوها وأختها، صالح ومرام
من اليمين: زوجها، وأختها، ومريم، والدها، أخوها وأختها، صالح ومرام




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 8:00 ص

      دكتور فؤاد شهاب الي في جامعة البحرين ؟ ؟

      هذا دكتور فؤاد شهاب الي في جامعة البحرين

اقرأ ايضاً