العدد 4830 - الجمعة 27 نوفمبر 2015م الموافق 14 صفر 1437هـ

الطقوس الجنائزية وتطور الهوية والسلطة المركزية في دلمون

إن مفهوم الدولة لا يمكن التنقيب عنه كشيء مادي؛ لأنه مصطلح «نظري» يُعطى لكيان له معايير محددة، كوجود السلطة السياسية والتقسيمات الإدارية والقوانين والموارد الاقتصادية، وبذلك فإن أي كيان يحتوي هذه المكونات يصبح «دولة». كذلك فإن الدولة لا تنشأ صدفة؛ فهي تمر بمراحل أولية يتم خلالها تكوين مقومات الدولة الأساسية، وتستمر تلك المراحل حتى تصل تلك المقومات لمرحلة النضج. بحسب هذه المفاهيم تم دراسة تطور الحضارة التي تأسست على أرض البحرين، في قرابة العام 2300 ق. م.، وكانت نتيجة تلك الدراسات أن هناك دولة قد تأسست وتطورت عبر القرون اللاحقة، وقد تم التعارف على تسميتها «دولة دلمون» (Hojlund 1989) و (Hojlund 1993).

مرت دولة دلمون بثلاث مراحل رئيسية: مرحلة التأسيس (2200 - 2000 ق. م.)، ومرحلة التوسع والذروة (2000 - 1800 ق. م.)، ومرحلة الأفول (1800 - 1600 ق. م.) (Hojlund 1989). وقد تزامن مع التغير في هذه الأطوار تغير في هوية السلطة السياسية التي سيطرت على دلمون؛ وبالتالي تغير في هوية التأثيرات الثقافية التي أثرت في هوية دلمون، وقد تناولنا ذلك بالتفصيل في سلسلة سابقة. يذكر، أنه بالإضافة لوجود تلك المراحل الأساسية، توجد مرحلة انتقالية مهمة ما بين مرحلة التأسيس ومرحلة النضج وهي الفترة ما بين (2050 - 2000 ق. م.) والتي أسماها البعض proto-dilmun أو فترة ما قبل نضج دولة دلمون. وفي هذه المرحلة تتداخل عدة تأثيرات ثقافية مشتركة في التأثير على ثقافة دلمون؛ فظهرت تلك التأثيرات بصورة أساسية في الطقوس الجنائزية وفي صناعة الأختام.

مرحلة التأسيس (2200 - 2000 ق. م.)

يرجح العديد من الباحثين أن الجماعة المؤسسة لدولة دلمون كانت متأثرة بدرجة كبيرة بحضارة وادي السند، بل إن جزءاً من هذه الجماعة ينتسب لحضارة وادي السند وهم الميلوخيون؛ وبالتالي فمن الطبيعي إذاً أن تكون هوية دولة دلمون الأولى تحمل طابع حضارة وادي السند؛ فدولة دلمون استعملت أوزان حضارة وادي السند وأختام تحمل هوية حضارة وادي السند، ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لهذه المصادر (Brunswig et al. 1983)، (Hojland 1989)، (Hojland 1993)، (During Caspers 1995)، (Laursen 2010a).

وقد ظهرت في فترة تأسيس دلمون قبور دلمونية ذات طابع خاص، عرفت باسم القبور الدلمونية المبكرة، وهي تتميز بانخفاض ارتفاعها ومظهرها المستوي، ويميل شكلها إلى عدم الانتظام. ويتكون القبر من جزء أساسي هو حجرة اللحد حيث يوضع الميت، وتكون هذه الحجرة إما بيضاوية أو مستطيلة أو مربعة الشكل وليس لها غطاء علوي حيث تترك مفتوحة. ويحيط بغرفة اللحد جدار مستدير من الحجارة، ويتم ملأ الفراغ ما بين الجدار الدائري وغرفة اللحد بالحجارة والتي تتخذ أشكالاً مختلفة (Lowe 1986). ويبلغ عدد هذه التلال قرابة 28000 تل، وهي تتركز في مجموعات تقع بصورة أساسية في شرق كرزكان وجنوب بوري، إلا أنها تنتشر بصورة متفرقة، فيوجد منها حتى في الرفاع ومناطق أخرى (Lowe 1986)، Laursen 2010b، 2011)). هذه القبور يتشابه بناؤها مع نموذج بناء القبور في ثقافة أم النار، وهي تتميز، بالإضافة لشكلها، بأنها تحتوي على فخار خاص مستورد، إما من حضارة وادي الرافدين أو من ثقافة «أم النار» (Laursen 2009، 2011).

وفي نفس مرحلة التأسيس، وبالتحديد قرابة العم 2100 ق. م.، ظهرت الأختام الدلمونية المبكرة التي عرفت أيضاً بأختام الخليج العربي، والتي تأثرت بالهوية السندية التي سادت في حقبة تأسيس دلمون (Laursen 2010a).

المرحلة الانتقالية 2050 - 2000 ق. م

تمثل هذه المرحلة، المرحلة الانتقالية من دولة دلمون الغير منظمة إلى دولة دلمون المنظمة؛ حيث ظهرت حكومة مركزية تسيطر على دولة دلمون. وتتميز هذه المرحلة أن لها ميزات مشتركة بين الهويات التي كانت تسيطر على دلمون في طور التأسيس (وادي السند، ووادي الرافدين، وأم النار)، والهويات اللاحقة التي سيطرت عليها والتي تمثلت في الهوية الأمورية. ويلاحظ التغير في بناء القبور الدلمونية؛ حيث ظهرت مجموعة قبور لها مميزات خاصة تتشابه بين القبور الدلمونية المبكرة السابقة الذكر، والقبور الدلمونية المتأخرة التي سوف نتطرق لها لاحقاً. ويتمركز هذا النمط من القبور، بصورة أساسية، في مقبرة واحدة وهي مجموعة قبور كرزكان، ولها شكل خارجي شبيه إما بالقبور المبكرة، أي إنها تلال منبسطة، أو القبور المتأخرة، المخروطية الشكل. لكنها تتميز بوجود جدران شعاعية الشكل تملأ الفراغ ما بين الجدار الدائري وغرفة اللحد، وكذلك تتميز بأنها تحتوي على فخار خاص محلي الصنع Laursen 2010)).

كذلك تميزت هذه المرحلة بظهور الأختام الدلمونية الوسطية، وقد تعددت مسمياتها، فالبعض أسماها proto-dilmun، أي أنها تعتبر أختام ما قبل نضج دولة دلمون (Kjaerum 1994)، ومنهم من أسماها الأختام الدلمونية الوسطية (Beyer 1989)، معتبراً أنها تمثل أختام مرحلة انتقالية من دولة دلمون المبكرة إلى دولة دلمون المتأخرة. وأياً كانت المسميات التي أعطيت لهذه المجموعة من الأختام فإنها تمثل مرحلة انتقالية بين حقبتين، وكذلك تمثل شكلاً وسطياً من الأختام تجمع في صفاتها بين مجموعتين من الأختام المبكرة والمتأخرة. وتبين هذه المجموعة من الأختام عملية تطور مهمة في هوية دلمون وفي تطور سلطتها المركزية.

مرحلة النضج 2000 - 1800 ق. م

من المرجح أنه قرابة العام 2000 ق. م. سيطر الأموريون على السلطة السياسية في دلمون؛ حيث ظهرت الأختام الدلمونية المتأخرة، وهي الأختام التي عثر عليها بكثرة في البحرين وكذلك في جزيرة فيلكا، والتي تميزت بفن النقش الأموري - الرافدي، كما تم العثور على نقوشات لتجار من دلمون يحملون أسماء أمورية (Hojlund 1989). وقد صاحب ذلك توسع دولة دلمون التي أصبحت تشمل شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. وتعتبر الفترة 2000 - 1800 ق. م. فترة الذروة لدولة دلمون التي تميزت بتأثيرات أمورية - رافدية (Hojlund 1989).

وظهرت في هذه الفترة تلال القبور الدلمونية المتأخرة والتي تنتشر في سار والجنبية والجزء الجنوبي من البحرين والتي يبلغ عددها قرابة 47000 تل (Olijdam 2010). وتتميز تلال القبور المتأخرة بأنها أكثر ارتفاعاً من التلال المبكرة، ومظهرها مخروطي. ويتكون القبر من جزء أساسي هو حجرة اللحد حيث يوضع الميت، والتي تغطى بغطاء علوي. ويحيط بغرفة اللحد جدار مستدير من الحجارة، ولا يتم ملأ الفراغ ما بين الجدار الدائري وغرفة اللحد بأي حجارة، كذلك، تتميز بأنها تحتوي على فخار خاص محلي الصنع (Lowe 1986)، Laursen 2010)).

الخلاصة، أن دولة دلمون مرت بفترة انتقالية مهمة، حدث بعدها تغير جذري فيها، فيلاحظ حدوث تغير واضح في بناء القبور، أي تغير في الطقوس الجنائزية، وقد تبع ذلك تغير في الأختام الدلمونية، والتغير هنا واضح، من تأثيرات سندية لتأثيرات أمورية فراتية. هذا وتعتبر الفترة 2000 - 1800 ق. م.، فترة نضج الدولة الدلمونية، وهي الفترة التي خضعت فيها دلمون لسلطة مركزية محددة، أدت لتوحيد الثقافة في دولة دلمون، حيث ظهرت الأختام الدلمونية المتأخرة والتي تتميز أنها تتبع نموذجاً معيناً، ولشدة ثبات نموذجها أسماها Beyer الأختام «المعيارية» (Beyer 1989). واعتبرت هذه الأختام، من قبل بعض الباحثين، هي الأختام التي تمثل دولة دلمون الحقيقية (Kjaerum 1994). وهذا دليل على تطور الحكومة المركزية التي أخذت تشرف بنفسها على صناعة الأختام (Laursen 2010)، وبناء القبور.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً