العدد 4842 - الأربعاء 09 ديسمبر 2015م الموافق 26 صفر 1437هـ

ليست مغامرة فردية... هي درس في اقتحام بيئات جديدة وتحصين للذات

«آخر إماراتي في نيبال»... لعبدالخالق عبدالله...

عبدالخالق عبدالله
عبدالخالق عبدالله

لا تُقرأ تجربة الكاتب والباحث الأكاديمي البروفيسور عبدالخالق عبدالله، في كتابه «آخر إماراتي في نيبال»، مع عنوان فرعي: «رحلة نحو قمة إفريست تحولت إلى أيام عصيبة عندما زُلزلت الأرض زلزالها»، الصادر عن «دار ورق للنشر والتوزيع» للعام الجاري (2015)، باعتبارها مغامرة فردية في الحياة، يقدِّمها في 196 صفحة، بقدر ما هي تجربة تحمل في جوانب من جوانبها عدداً من المعاني والمرامي، بالقدرة على التكيُّف مع المتغيرات، تلك التي نضع لها حساباً، أو تلك التي تباغتنا ونحن في مأمن وما نظنها مطمئنة. هي تجربة اقتحام بيئات جديدة، وطريقة لتحصين الذات في الوقت نفسه، أو كما لخّصها عبدالخالق في نهاية كتابه، بهذا المعنى، إنها بداية للمغامرة الكبرى في الحياة «بل في القمة التي تقبع في داخلي: قمة السعادة، وقمة الحكمة، وقمة الصحة، وقمة الحب والمحبة، وقمة التصالح والتسامح. مغامرة الوصول إلى هذه القمم في الداخل ستكون الأكثر متعة وإثارة وجسارة من جميع المغامرات التي قمت بها في الخارج حتى الآن (...)».

هي بحث عن التجارب التي ترسِّخ قدرة الإنسان على أن يقتحم بيئات جديدة، وذلك يعني بالضرورة اقتحام تجارب تعيد صوغ كل ما فيه، أو على أقل تقدير، أكثر ما فيه، بدءاً من نظرته القارَّة والثابتة، مروراً بالدفع بتجاربه إلى مساحات كان عصياً عليه خوضها والدخول فيها لو ركَن إلى دِعَة أو رفاهية توافرت له.

يُقدِّم كتابه أيضاً شكلاً من أشكال محاولة تعميم التجربة، لما تحويه من حصانة للذات من الاستسلام لرفاهية النأي عن المخاطر. كلما ابتعد الإنسان عمَّا يعتقدها مخاطر في كل طوْر من أطوار حياته، يظل مُهدَّداً بالضعف والانهيار في أية لحظة. خوض تلك المخاطر هو المصْل الذي يقيه عنصر المفاجأة والمباغتة، ومن ثم مواجهة العجز والتماس الحلول والمخارج.

لم تكن التجربة التي يكتب عنها الأكاديمي عبدالخالق عبدالله هي الأولى، من حيث الممارسة، فقد اعتاد عليها، وله مع جبل كليمنجارو، الجبل الأكثر ارتفاعاً في إفريقيا تجربة في اكتشاف المكان، وإن خلت من الزلزال الذي يتناوله في هذا الكتاب؛ علاوة على تجارب في أمكنة أخرى في دنيا الله الواسعة والمتنوعة.

أمر مهم ليس بعيداً عن مدارك وفهم كثير من القرَّاء، يتعلق بتجربة «الرحلات» والأدب الذي يمكن أن ينشأ عنها، فضمن هذا الحقل، لا تكمن الأهمية في التجربة نفسها، من حيث هي ممارسة وأداء، وتحمُّل، وإن كانت مهمة من دون شك، لكن الفاصل في هذه التجربة يظل في القدرة على التعبير عنها، وتمرير القيمة فيها، وتجلّي الدرس الذي يمكن تعميمه في الوسط الإنساني.

أدبيات التجربة... السياحة البيئية

الكتاب الذي وضعت مقدمته قرينة الكاتب، ريما صبَّان، قالت فيها إن كتاب عبدالخالق «يندرج ضمن ما يتعارف عليه اليوم في الأكاديمية بأدبيات (التجربة)؛ وأدبيات التجربة نوع من المعارف الناشئة، والتي تنمو وتزدهر مع ازدياد تجارب الرحلات، والسياحة البيئية، وأنماط الحياة غير المألوفة التي بدأت تستثير الإنسان؛ وخاصة مع ازدياد وسائل الجذب لمثل تلك المغامرات، ومع تحول الإثارة إلى صناعة تحث عليها آلاف الشركات والمؤسسات ووسائل الإعلام (...)».

في كتابة الطبيعة تحتاج إلى أن تكون متوحِّداً معها. ألاَّ تطمئن إلى أنها ستأخذك في أحضانها على طول المسير. ثمة ما قد ينوء به كاهلك وقدراتك، لكن تبقى القوة الكامنة فيك هي التي تنتصر في النهاية على قسوة الطبيعة وأنوائها.

و «(آخر إماراتي في نيبال) كتاب صنعته التجربة واللحظة التي كتبت فيها الطبيعة كعادتها مصائر الشعوب بنوع من العنف والغليان الذي لا يمكن تطويعه».

يوضح عبدالله في مقدمته للكتاب أن رحلته إلى نيبال كانت «رحلة مغامرة جبلية للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة إلى أعلى قمة في العالم». وفي السؤال الذي يطل برأسه: لمَ نغامر، يراه عبدالخالق قريباً من: لمَ نقرأ. عن السؤال الأول يجيب: «بحثاً عن السعادة وللحصول على الصحة، والسعي للإنجاز وحب المغامرة، وربما بحثاً عن الحكمة الضالة، روح الاستكشاف، ومتعة الوصول إلى القمة».

في سرْد ما قبل «زُلزلزت الأرض زلزلاها» في رحلة محفوفة بالمخاطر وعمق التجربة في نيبال، إشارة إلى التوحُّد التام مع الطبيعة. التأمل الذي يأخذ به إلى ما وراء المكان... المخاطر التي تنتظر أصحابها هناك... الدليل تانكا، الشاب النيبالي النحيف... حال الانسجام مع ارتفاعات جبلية شاهقة... نهاية يوم طويل من الصعود سيراً نحو قمة الجبل الناصعة بياضاً... الأكاديمي الذي جاء من بيئة مرفَّهة، يجد نفسه طوعاً في بيئة على النقيض، من حيث هي شحيحة في مواردها، ثرية في طبيعتها، في عملية تبادلية يحتاجها الجنس البشري، ولا تكتمل عنده المتطلبات جميعها. البيئة ناقصة في جزء من الأرض، ومتوسطة الغنى في جزء آخر، وفاحشة في جزء ثالث، ذلك مدعاة التبادل في الانفتاح والتعرُّف إلى البيئة.

الهزَّة والأدرينالين

يأخذنا عبدالخالق عبدالله إلى حال وصْفِية لما قبل الزلزال... المكان كما رآه. الطبيعة في ثرائها وامتدادها. للأرض غضبها وثورتها واحتجاجها أيضاً. ذلك ما يأخذنا إليه «كنت أستمع للصمت بما يحمله من حكمة، وفي جنة من السعادة، وكنت في حلٍّ من الواقع وفي ترحال مع الروح، عندما غضبت الطبيعة وزلزلت الأرض زلزالها، وتحركت سفوح وسهول أعلى جبل على وجه الأرض. لم تهتز الأرض طرباً ووجداً لسعادتي، بل اهتزت بفعل أعنف زلزال مررت به في حياتي (...)».

في دقة اللحظة وحساسيتها يضعنا عبدالخالق عبدالله أمام ما استطاعت ذاكرته أن تحيط به. أمام هول موقف وحدث مثل ذاك، تتعطل المدارك ويجمد الوعي جنباً إلى جنب الدماء التي في العروق.

«بعد أن زلزلت الأرض زلزالها، استيقظ العقل الواعي واللاواعي يحاول أن يستوعب ما يجري، وما يجب عمله. عندما أدركت أنني وسط زلزال عنيف، انتفخ الخيال أولاً، ثم انتشر الأدرينالين في عروقي، وانخدع الدماغ مؤقتاً، ولم يعد يستقر على قرار. بدأت أسمع أصواتاً تدعوني إلى الهروب من المكان، لكن لم يكن واضحاً لي الهروب في أي اتجاه. كنت بالقرب من حافة وادٍ عميق، وفي درب جبلي أضيق من ضيِّق (...)».

يقترب بنا أكثر نحو تلك اللحظات الفاصلة، بين التواجد في المكان كجزء من رفاهية الاكتشاف، وبين أن يبتلعك المكان الذي قطعت من أجله آلاف الكيلومترات. يمسك عبدالخالق بتلك اللحظات، قارئاً لها ليس على مستوى ما عايشه وكان في عمق تجربته، بل يقرأ أيضاً أولئك الذين وجدوا أنفسهم في الموقف نفسه، قلَّ أو كثر في رعبه والهلع الذي يخلِّفه.

ألاَّ تقطع صِلتك بالمغامرة

«عندما تأتي هزة أرضية مباغتة وعنيفة على تلك الارتفاعات الشاهقة لا تصدّق ما يجري من حولك، ولا تعرف ما هو التصرف السليم، بل تصبح كالأحمق تماماً، أي الشخص الذي يرتكب أخطاء سخيفة، ويكرِّر أفعالاً غبية لا فائدة منها. أن تقف في حالة جمود وسكون لـ 20 ثانية من هزَّة أرضية عنيفة هو فعل أحمق. وأن تحاول التقاط صورة لمثل هذا الحدث هو الغباء بعينه. وأن تطلق صرخة (واو) مهما كانت قوتها وصداها فهو التعبير عن اليأس والاستسلام التام، أكثر مما هو تعبير عن القوة والشجاعة».

في جانب من محصلة تلك المغامرة والإثارة (التجربة)، يرى عبدالخالق أن فيها ما يكفي العمر كله، من حيث الإسناد والحصانة وعميق الدرس «وأنه لا يجب التذمّر مما أنا فيه. حتماً لم تكن هذه أمنية أمنياتي (...) رحلة الصعود إلى قمة إفريست هي المغامرة بامتياز التي لا تتكرر كثيراً ولا تحدث سوى مرة واحدة في العمر. فالمغامرة تعني أموراً كثيرة من بينها أن تذهب إلى المجهول، وتواجه الصعوبات بإرادتك الحرة، وتجتازها بجدارة وعزيمة وإصرار، حتى وإن كلّفك ذلك بعض المتاعب».

كثيرون يخرجون من تجارب تضعهم على حافة الموت فيجفلون، ويقطعون صلتهم بالمؤديات أو الأسباب التي جعلتهم في تلك المواقف والأزمات. لا يخرجون منها - واقعاً - بشيء يحصِّنهم. ثمة آخرون تكون مثل تلك التجارب والأزمات سبباً لإعادة الاعتبار للكامن والمؤجَّل وغير المكتشف فيهم. يخرجون منها أكثر قوة وصلابة وحكمة أيضاً.

السور العاطفي الافتراضي

وفي إيجاز الباحث والأكاديمي الإماراتي عبدالخالق عبدالله أسباب الإصرار على تلك المغامرة والتجربة يورد أهمها، أن مغامرة العمر الكبرى، والأكثر إثارة من مغامرة جبال الهيملايا وكليمنجارو والألب وفوجي وغيرها، «لم أقم بها حتى الآن، والرحلة نحو قمة القمم في الحياة لم أبدأها بعد».

في تركيز أيضاً على مغامرة البحث عن الذات، في تجلٍّ يحدده بالقول إن «أهم قمة تنتظرني بفارغ الصبر ليس الوصول إلى قمة إفريست من جديد، بل في القمة التي تقبع في داخلي: قمة السعادة، وقمة الحكمة، وقمة الصحة، وقمة الحب والمحبة، وقمة التصالح والتسامح. مغامرة الوصول إلى هذه القمم في الداخل ستكون الأكثر متعة وإثارة وجسارة من جميع المغامرات التي قمت بها في الخارج حتى الآن (...)».

في الكتاب أيضاً إشادة للرعاية التي توليها دولة الإمارات العربية المتحدة لمواطنيها أنَّى كانوا وتواجدوا، في تتبُّعها لأخبارهم وأحوالهم، كلما حدثت تقلبات وتطورات وأنواء في الدول التي يتواجدون فيها، وهو ما حدث لمؤلف الكتاب، وتحديداً المتابعات التي قام بها وزير الخارجية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، علاوة على المتابعات التي حدثت بفعل ما أسماه عبدالخالق «السور العاطفي الافتراضي»، ذلك الذي تجلَّى في تناقل أخباره عبْر «الواتس أب».

في الكتاب جانب كبير من اليوميات، تفاصيل الرحلة والمكان. المعلومات الجغرافية، التقسيم الإثني، ذكْر للهجات واللغات. في الكتاب انتقالات، مرة بين السرْد، وبين التسجيل، لكن يظل المخزون الذي تقدمه تجربة المغامرة تلك وضَّاء وملهماً، ويبعث على الإعجاب.

ضوء

يُذكر أن عبدالخالق عبدالله عمل أستاذاً في قسم العلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، وهو ومستشار وحدة الدراسات في صحيفة «الخليج»، والمشرف العام على التقرير الاستراتيجي الخليجي. يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة جورج تاون في واشنطن في السياسة المقارنة، ودرجة الماجستير من الجامعة الأميركية في واشنطن في الفلسفة السياسية. عضو مؤسس وفاعل في العديد من الجمعيات المهنية والثقافية والتطوعية الإماراتية والخليجية والعربية، بما في ذلك «لجنة الإمارات الوطنية لمقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلي»، كما أنه حالياً الأمين المالي للجمعية العربية للعلوم السياسية، وعمل رئيساً لتحرير مجلة شئون اجتماعية لنحو عشر سنوات.

لعبدالله اهتمامات بحثية بقضايا الأمن والتحولات السياسية في الخليج العربي، بالإضافة إلى كتابات متنوعة حول قضايا فكرية وسياسية وعربية وعالمية معاصرة. حصل على منحة فولبرايت العام 1995، وعمل أستاذاً زائراً في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات وألقى محاضرات في جامعات ومراكز بحثية أوروبية وأميركية وآسيوية وعربية.

صدر له مجموعة من الكتب أبرزها: «الوطن العربي بين قرنين» (تحرير، 2001)، و»الحركة الثقافية في الإمارات» (2000)، و»النظام الإقليمي الخليجي» (1999)، و»قضايا خليجية معاصرة» (تحرير، 1998)، و»العالم المعاصر والصراعات الدولية المعاصرة» (1989)، «اعتراقات أكاديمي متقاعد»، والكتاب الذي بين أيدينا «آخر إماراتي في نيبال»، كما نشر له أكثر من 30 بحثاً باللغتين العربية والإنجليزية في دوريات عربية وعالمية، وقد نشر له أخيراً بحث حول العولمة في مجلة «عالم الفكر»، ودراسة حول «نهاية علم السياسة في مجلة العلوم الاجتماعية»، كما نشر له من إصدارات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي دراسة بعنوان: «دول الخليج العربية: مقاربات قديمة وحقائق جديدة»Arab Gulf States: Old Approaches and New Realities.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
جانب من إحدى قمم الهيملايا
جانب من إحدى قمم الهيملايا




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً