العدد 4851 - الجمعة 18 ديسمبر 2015م الموافق 07 ربيع الاول 1437هـ

الأخلاق في العصر الجاهلي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مقالي قبل يومين كان عن شأنٍ تاريخي يتعلق بالحقبة الجاهلية. ذكرت فيه، أمرين: الأول: الوضع العلمي والثقافي في تلك الحقبة، حيث استعرضتُ مجموعة من المصادر التي تؤكد على عدم جهل الناس في تلك الفترة بالقراءة والكتابة، بل وبما هو أبعد من ذلك كإجادة اللغات الأجنبية.

والثاني: يتعلق بالحالة القِيمية والأخلاقية في الحقبة الجاهلية، ووجود جذور للحنيفية الإبراهيمية، والأديان التوحيدية، بما فيها اليهودية والمسيحية. واستعرضتُ أيضاً جانباً من المصادر التاريخية، التي ذكَرَت خطاب الناس في تلك الفترة وممارساتهم سواء في الطقوس أو في تعاملاتهم اليومية.

اليوم، سأتناول الموضوع بالتطرق إلى وضع الأخلاق في المجتمع «الجاهلي». وهو جانب مهم جداً، إذْ إن ما أشِيعَ وقِيْل بحق تلك الفترة هو أنها بلا قيم ولا أخلاق. وهو أمر كسابقه، تجنَّى فيه كثيرون ولم يكونوا فيه منصفين. هنا، سأسرد وقائع قد تُجلِي لنا صورة المشهد الاجتماعي لذلك المجتمع، وطريقة نظرته للقيم والأخلاق في تعامله مع الأغيار كي نقف على حقيقته وكُنهِه.

يذكر السجستاني عن دريد بن الصَّمة الجشمي، الذي كان من زعماء الجاهلية، حديثاً مهماً في طريقة حثّه الناس على الأخلاق الحميدة والعادات الطيبة. فقد جَمَعَ دريدٌ قومه وقال: «لا تحقرن شراً فإن قليله كثير، واستكثروا من الخير فإن زهيده كبير، واجعلوا السلام محياة بينكم وبين الناس، وإياكم والفاحشة في النساء فإنها عار أبداً وعقوبة غداً، وعليكم بصلة الرحم فإنها تعظم الفضل وتزين النسل، ولا تحضروا ناديكم السَّفيه، ولا تلجوا بالباطل فيلجّ بكم».

كما نقل الرجل ما جاء عن عمرو بن حممة الدَّوسي من أنه نَصَحَ قومه فقال: «مَنْ جَمَعَ بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به، ومع السفاهة الندامة، وإياكم والشر فإن له باقية، وادفعوا الشر بالخير يغلبه، إنه من دفع الشرَّ بالشرِّ رجع الشرُّ عليه، وليس في الشرِّ أسوة، وخذوا على أيدي سفهائكم تقلل جر أثركم، وإياكم والحسد فإنه شؤم ونكد، وإني وجدت صدق الحديث طرفاً من الغيب فاصدقوا تصدَّقوا، وإن لكلّ شيء داعياً، فأجيبوا إلى الحق وادعوا إليه وأذعنوا له».

ومما يُذكر عن القلمَّس، وهو أمية بن عوف، أنه كان يقول للعرب: «أوصيكم بخصلتين، الدّين والحسب، فأما الدين فلَّله، ومن أعطيتموه عهداً فأوفوا له، ومن أعطاكم عهداً فارعوا عهده حتى تردّوه إليه؛ فأما الحسب فبذل النَّوال، وأوصيكم بالسائل إن كان منكم أن يسأل غيركم؛ ولا تقتلن أسيراً فإنه ذحل (ثأر) عندكم ومصيبة فيكم، وأوصيكم بالضيف، والجيران فأكرموهم».

وكانت العرب توصي أقوامها بالخفراء (أي المستجيرين بهم) وبتيسيير الصَّداق في الزواج واختيار «ذوات العفاف والحسان أخلاقاً» وأن تُكرَم النساء الغريبات حين ينصرفن إلى أقوامهن. كما كان لهم أحاديث كثيرة في طريقة الإدارة الاجتماعية والأسرية وحتى السياسية بشكل دقيق، كما في حادثة عامر بن الظرب مع مَلِكٍ من ملوك غسّان، وفي كيفية تجويد العلاقة مع أهل الحكم والملك.

وربما إطلالة على ما قاله زرارة بن عُدُس بن زيد بن تميم لِبَنِيه من وصايا غاية في الروعة دليل آخر على ما نقول. فقد قال لهم زرارة: «إياكم أن تُدخلوا عليّ في قبري خزّية أسبّ بها. فوالله ما شايعتني نفسي قط على إتيان ريبة، ولا عمل بفاحشة، ولا ضمّني وعاهرة سقف بيت قط، ولا حسّنت لي نفسي الغدر منذ شدّت يداي مئزري، ولا فارقني جار على قِلى» أي بغض.

ولو مرّ أحدنا على ما كتبه أكثم بن صيفي التميمي أحد أبلغ حكماء الجاهلية لـ ملك هجر (وقيل نجران) وإلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني ملك عرب الشام أو ما قاله أمام كسرى من وصايا لبُهِر منها، كترك الفجور والفضول والحقد والضغينة والبخل والكذب وحب المديح، وضرورة المشورة. وهو ذات الأمر الذي ينطبق على حكمة وشرف أبي طالب بن عبد المطلب وقيس بن عاصم المنقري.

بل حتى في توصيفهم للحياة الزوجية وعلاقة المرأة بالرجل داخل المسكن وخارجه تُعطينا إشارة لما كان يحثّ عليه ذلك المجتمع كما في وصية أمامة بنت الحارث لابنتها ليلة زواجها، كالمعاشرة للزوج بالقناعة وحسن الطاعة والنظافة الشخصية وعدم إفشاء أسرار بيتها. بل حتى في طريقة الاقتران بين الزوجين كما في زواج الحارث بن عمرو الكندي من ابنة عَوْف بن محلم الشَّيْبَانِي عندما جاءه وصفها بأن لها لساناً فصيحاً و «عَقلاً وافراً وجواباً حاضِراً».

نأتي الآن إلى خاتمة الموضوع لنتساءل: لماذا إذاً سمّوه بهذا الاسم وهو: الجاهلية؟ الحقيقة أن هذا اللفظ هو مصطلح شرقت فيه طائفة وغربت أخرى. فمنهم مَنْ أرجعه إلى الجهل بالدّين وعدم الانقياد إلى حكم وشريعة وإرادة إلهية كما يذهب إلى ذلك جواد علي، والبعض أرجعه إلى سفههم وغضبهم وأنَفَتِهِم وغير ذلك.

لكن في المحصلة تبقى المسألة مجرد تفسيرات أمام ما وُجِدَ في كتب التاريخ من أوصاف وعادات طيبة اتّسَم بها ذلك العصر، إلى الحد الذي لم يُلغِها الإسلام من أساسها بل حسَّنها وجوَّدها، دون أن يعني ذلك حتماً أن ذلك العصر الموسوم بالجاهلية لم يكن فيه جهل أو أميَّة أو صراعات، لكنها تبقى كغيرها من الأمور التي كانت موجودة في شعوب أخرى على مَرّ العصور.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4851 - الجمعة 18 ديسمبر 2015م الموافق 07 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 23 | 7:21 م

      احم احم

      استنتاجك صحيح مئة بالمئة والموضوع سهل جدا ممكن تعرفه من نمط الحياة من دون التدقيق في التفاصيل ومنها راح تتوصل الى من هو معاوية وهل فعلا اعتنق الاسلام ولماذا اسس الدولة الاموية وماذا حدث فعلا في الواقع وماهو المخفي تحت الستار بس احذر الكلام راح ايصير تكفيرك بالفلس ؟
      وفي الختام وبصريح العبارة الكلام عن الجاهلية عندنا ما ايزيدنا ايمانا انما ايزيدنا جهلا بطبيعة الانسان وحبه للخير ونبذه للشر ؟
      اقولو قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ايها المواطنون الكرماء

    • زائر 19 | 3:16 ص

      إذاً ما هي الجاهلية؟ 5

      و في عصر التحضر الذي نعيشه ؛ مَن مِن الأمم المتحضرة يوافق – في حال حدوث نزاع أو خلاف مع دولة أخرى - على اللجوء إلى التحكيم كما ينص عليه القانون الدولى ، و الخضوع لقراراته في جميع الأحوال، و عدم اللجوء إلى الحرب؟
      من من الدول القوية يوافق على حل الجيوش و تفكيك الأسلة و وسائل الدمار، و استبدالها بجيش دولي قوي يخضع لسلطة دولية، تكون المسئولة لردع أي عدوان من دولة على أخرى؟

    • زائر 18 | 2:48 ص

      انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق

      مكارم الأخلاق التي جاء بها الانبياء السابقون هي ما سيتممه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. ومن المعروف انه بين نبي وآخر تندثر بعض الكثير من القيم والاخلاق ويضل الكثير من البشر

    • زائر 17 | 1:58 ص

      تعليق

      أحسنت على مقالك الجديد في موضوعه وطرحه ، بالتأكيد كان هناك أخلاق وقيم حميدة وعادات حسنة، وقد صرّح نبي الرحمة عليه وآله الصلاة والسلام أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق ، لكن تلك الأخلاق والقيم كانت مهجورة و غير محترمة ولا يُعمل بها والغلبة للغرائز ونوازع النفس الشريرة وجاء الإسلام ليُرجع الناس الى فطرتهم التي فطرهم الله عليها

    • زائر 16 | 1:33 ص

      إذاً ما هي الجاهلية؟ 5

      و في عصر التحضر الذي نعيشه ؛ مَن مِن الأمم المتحضرة يوافق – في حال حدوث نزاع أو خلاف مع دولة أخرى - على اللجوء إلى التحكيم كما ينص عليه القانون الدولى ، و الخضوع لقراراته في جميع الأحوال، و عدم اللجوء إلى ............؟
      ...............................

    • زائر 15 | 1:32 ص

      إذاً ما هي الجاهلية؟ 4

      و إن كانت الأديان مصدر الشر و الحروب و العداوة و البغضاء و الفرقة ؛ فمَن مِن الأمم اللادينية لم تشن حرباً أو عدواناً على أمة أضعف منها؟

    • زائر 14 | 1:30 ص

      إذاً ما هي الجاهلية؟ 3

      قد يستشيط البعض غضباً من وصف البشرية بالجهل. لكنها هي كذلك في التصور و العقائد و الأديان و السلوك إذا تجرت عن الوحي السماوي!
      فماذا تركت البشرية من الموجودات و لم تعبده؟ الفئران- البقر- الفيلة- الأصنام- الأحجار
      و ماذا انتجت عقول الفلاسفة و المفكرين و صناع النظريات و المذاهب البشرية؟ لكن إلى أين؟ و على أي معيار يمكن لأحد أن يصحح أو يخطئ ليختار؟ و ما هو القدر الأدنى الذي اتفق عليه الفلاسفة و صناع الفكر و المنظرون؟

    • زائر 11 | 1:10 ص

      إذاً ما هي الجاهلية؟ 2

      الجاهلية من منظور القرآن هي الخروج على العقائد و التصورات و القيم و الممارسات و السلوك و الأحكام الإسلامية. فمن افتخر بأصله و نسبه و حسبه فهو جاهلي، و من وئد ذريته فهو جاهلي، و من اعتبر التعري و حرية العلاقات الجنسية صور من التحرر و التحضر فهو جاهلي، و من عبد إلهاً من صنعه و اختياره فهو جاهلي، و من أنكر البعث و المعاد فهو جاهلي، و من استحل الدماء و القتل فهو جاهلي، و من حاكم الناس بفكره و تصوره دون مرجع علمي أو برهان منطقي أو نص ديني واضح فهو جاهلي.

    • زائر 10 | 1:09 ص

      إذاً ما هي الجاهلية؟ 1

      كما ذكر الكاتب ؛ الجاهلية ليست الجهل. فالجاهلية مصطلح و مفهوم قرآني لم تطلقه العرب، و لم يستحدثه أحد من الفلاسفة أو علماء الاجتماع.

    • زائر 9 | 1:06 ص

      الاسد

      العصر الجاهلي انما سمي بذلك لبعد الناس عن الحنفيه واتباعهم عبادة الاصنام والاوثان وانتشار وأد البنات .. ولم يطعن في اخلاق العرب وغيرتهم .. فقد كانوا كرماء كعادتهم ..

    • زائر 6 | 11:41 م

      نعم قد يكون

      نعم هناك مبادئ عامة يتواصى بها نبلاء العصر الجاهلي ولكن هناك جانب اكثر شياع سحق قيمة المرأة فدفنها حية بعد ولادتها واستعبد الناس وجعل كرامة الانسان من وجاهته في قومة واسم قبيلته وهناك جهل غالب فكم نسبة الحنيفية الابراهيمية او المسيحية واليهودية قبال اللات والعزى وهل تصمد جذورهم امام اي خلاف جاهلي ؟ اعتقد ان الأمثلة اعلاه لاتبتعد كثير عن الخطب الرنانة التي يخطبها زعماء بعض الدول عن الحرية وحقوق الانسان والدمقراطية . / العرادي

    • زائر 7 زائر 6 | 12:20 ص

      أضف لمعلوماتك

      ما كتبته يحتاج الي دكر مصدر و بحث. اما تكرار ما هو شائع بين العامة لا تمت بالبحث العلمي.

    • زائر 5 | 11:16 م

      خطبة فاطمة الزهراء

      في خطبة فاطمة الزهراء الكثير من صور الجاهلية تناولتها وهي تحدث القوم حتى مأكلهم ومشربهم

    • زائر 4 | 11:11 م

      وأد البنات

      إشارة القرآن الكريم لوأد البنات لا يعني انتشاره بل يعني انه موجود والاخبار التاريخية تقول بان فئة قليلة كانت تفعله

    • زائر 3 | 10:56 م

      الأخ محمد

      ماتكلمت عن أخلاق البرامكه مال الشرقيه سرقوا الحجر الأسود عواده بعد عشرين سنه

    • زائر 12 زائر 3 | 1:11 ص

      اوتع وانتبه الكاتب يتكلم عن الاخلاق في الجاهلية

      انت استوعب عنوان الموضوع على الاقل وبعدين اكتب حتى لو ما فهمت الموضوع ويش.
      شجاب البرامكة والامويين والعباسيين لموضوع الاخلاق في الجاهلية.
      لكن اظن من تأصلت فيه رذائل الجاهلية سيبقى جاهليا ولو جاء الف اسلام

    • زائر 13 زائر 3 | 1:14 ص

      يا اللخو البرامكة مثلهم مثل من ضرب الكعبة باامنجنيق

      اشوف نسيت من ضرب الكعبة بالمنجنيق و من قتل سيد شباب اهل الجنة ومن انتهك حرمة مدينة الرسول..
      ...

    • زائر 21 زائر 3 | 9:36 ص

      اعرف ويش تبي تقول اول بعدين تكلم

      مو البرامكة يحجي اسمهم القرامطة انت عاد احفظ اللي عطوك اياه بعدين تعال اتكلم الله يهديك ياولدي

    • زائر 2 | 10:28 م

      شكراً ابوعبدالله

      المضمون جميل ومميز، حبذا لو كتبت لنا بخصوص موضوع "وئد البنات" المذكور في القرآن، وتطبيقاته في المجتمع الجاهلي، وعلى وجه الخصوص المجتمع القرشي.

    • زائر 1 | 9:57 م

      سؤرال

      لا ادري ما يدور في فكري لأعلق. لكني متأكد بان الكاتب قال القليل. لربما خشية من رد الفعل. لكني متاكد بان الكاتب بامكانه اكثر من هذا عن تلك الفترة.

اقرأ ايضاً