العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ

قصة العفو عن «الامبراطور»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما أعلنت اليابان نيتها الاستسلام في الحرب العالمية الثانية كابَر بعض الجنود اليابانيين في المستعمرات الشرقية. عندها، خَرَجَ امبراطور اليابان هيروهيتو، في خطاب لشعبه قال فيه: «لم يعد بإمكاننا خوض الحرب مع أي أمل في النجاح. المسار الوحيد المتبقي لليابان هو أن يُقدِمْ مئة مليون ياباني على التضحية بحياتهم ليجعلوا رغبة العدو في القتال معدومة». ثم انتهى كل شيء.

وعندما جاء وزير الشئون الخارجية الياباني المستر مامورو شيجميتسو إلى الفرقاطة الأميركية يو إس إس ميسوري كي يوقع وثيقة استسلام بلاده أمام الأميركيين، اختار قادة عسكريون يابانيون الانتحار فوراً، بينما جاء آخرون طالبين لقاء الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر وهو يطأ طوكيو منتصراً. قالوا له: لا تُحمِّلوا الامبراطور المسئولية، فنحن مَنْ يتحمَّل قرارات الحرب ونتائجها.

كانت اليابان في المرحلة التي دخلت فيها الحرب العالمية الثانية قد عيَّنت مجلساً أعلى لقيادة المعركة الممتدة في كامل الشرق، تألّف من سياسيين وعسكرين هم: رئيس الوزراء، ووزير الشئون الخارجية، ووزير الجيش وقائده ورئيس هيئة الأركان، ووزير البحرية أو ما كانوا يُسمَّون بالستة الكبار. وكان هذا المجلس يعمل بإمرة مباشرة من الامبراطور الذي كان في بداية الأربعينات من العمر.

كان خوف القادة العسكريين والسياسيين اليابانين بعد الاستسلام أن يتمّ إعدام الامبراطور. قرَّر الأميركيون أن لا يَمسّوه بسوء، بل ولا يعتقلوه، على رغم أن قصف الطائرات اليابانية لميناء بيرل هاربر في جزر هاواي الأميركية ومقتل أربعة آلاف جندي أميركي حاضراً. طلبوا أن يذهبوا هم إلى بيت الامبراطور زائرين له، ويحتسوا معه الشاي لمعرفتهم ماذا يُمثِّل شخصه من قيمة معنوية.

قال لهم الامبراطور: أنا مَنْ يتحمَّل الحرب كلها، أحداثاً ونتائج، لكنكم لا تُعاقِبوا شعبي ولا تُمارسوا عليه إذلالاً، فهو لا يتحمَّل أي مسئولية في ذلك. كان ذلك الجواب خالداً عند اليابانيين. بعدها بَقِيَ الامبراطور هيروهيتو في منصبه أربعة وأربعين عاماً (توفي في العام 1989م) وأصبحت اليابان بعد تلك «الحرب المدمِّرة» البلد الأول في العالم على مستوى الصناعة والتقدم العلمي والحكم الرشيد الذي فاق حتى دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية في العديد من الجوانب.

هذا الدرس بليغ. فاليابان لم تكن دولة ديمقراطية قبل الحرب. فقد كانت ومنذ العام 1889م بلداً يتظاهر بالحياة البرلمانية والديمقراطية حتى مع انتخابات العام 1936م التي عزف أغلب اليابانيين عن المشاركة فيها. ولم تأتِ الحرب العالمية الثانية إلاّ وهي تُحكَم بنظام يميني شمولي، حيث حُلَّت الأحزاب بما فيها جمعية مساعدة الحكم الامبراطوري، وباتت اليابان تسير على الخط الإمبريالي إلى جانب ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. لذلك كان اليابانيون لا يتلمظون حياة سياسية مستقرة.

الحقيقة أن هذه الحادثة تجعلنا نُفسِّر أشياء أعمق في التغييرات السياسية والاجتماعية للنظم الحاكمة. فما يجب أن يُفهَم هو أن المجتمعات (أي مجتمع كان) يخضع إلى عدد لا يُحصى من الميول والاتجاهات، ومن بينها تلك التي تُوصف على أنها ميول نحو الفاشية أو التسلّط! كيف؟! حسناً يمكن الإجابة عن ذلك بمسيرة لا تنتهي من تجارب التاريخ بعيداً عن التفسيرات النفسية للشعوب.

فعندما تسمح الظروف الطارئة أو تدافع الأحداث إلى بروز نظام حكم لا تُتَداول فيه السلطة، فإن القطاع الأغلب من الناس تغيب عنده القدرة على الحركة المدنية وتلمّس مناخ الحرية السياسية الأمر الذي يجعله لا يستشعر سوى حاجاته الأساسية الضامنة له حق الحياة الآمنة والمُشبِعة في حدها الأدنى، مع توافر بقية الخدمات الأخرى من تعليم وصحة وتأمين وتعريف سهل للوطنية.

مثل هذه الأشياء تخلق نوعاً من الولاءات الصغيرة لكنها مؤثرة في المجتمع. كما إن وجود مثل هذه الأشياء كحاجات أساسية في المجتمع وبشكل مستمر تجعله قليل الصبر على غيابها، وهو ما وجدناه في العديد من الدول التي حصل فيها تغيير سياسي، لكنه قاد إلى اضطرابات سياسية أدت لزيادة البطالة وغياب للأمن وتفسخ اجتماعي كالعراق وسورية وليبيا ومصر وغيرها من الدول.

الأمر لا ينسحب فقط على التجربة كتجربة، بل حتى على الزعامات التي كانت تحكمها. فأيّ حاكم مهما كان حكمه فاسداً أو محل جدل سياسي، هو في النهاية يحظى بدعم قطاعات اجتماعية مؤثرة حتى ولو ظلّ صوتها خافتاً خلال التحول السياسي بسبب صخب الشعارات المرفوعة. وهو أمر وجدناه يحصل حتى في ألمانيا النازية بعد الحرب.

لذلك، فإن التغيير السياسي الناجح ليس بالضرورة أن يكون اجتثاثياً بل الأصلح هو أن يُعتبَر ذلك الزعيم ضمن النسيج السياسي والاجتماعي للوطن، وذلك كسباً لأكبر مساحة ممكناً من الولاءات وحالات الرضا. أما التجريم بالسجن أو القتل أو السحل فهذا ما لا ينفع أبداً، بل يقود إلى تمرد هنا وهناك باعتبار أن الحكم الجديد ليس شاملاً ولا يغطي كل شرائح الناس طبقياً ودينياً وسياسياً.

فالحقيقة وكما قال أوسكار وايلد، فإن «المجتمع موجود كفكرة عقلية؛ لكن في الواقع ليس هناك سوى الأفراد». وعندما نصل إلى هذه النتيجة سنعرف أن المحافظة على الفرد هي ذاتها المحافظة على المجتمع في تلك المسألة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 10:35 ص

      الى زائر 3 ...
      جيد ، ما هي المصادر الفارسية المناسبة ؟ الصحف المعتدلة ؟ المحللون المتعمقون المعتدلون ؟ المواقع الفارسية الممتازة في هذا المجال ؟
      هذا ما أريد معرفته ....

    • زائر 5 | 2:46 ص

      اسقاط على واقعنا ...

      جزء من هذا الاسقاط لا يسقط، لأن جزء ممن يعيشون على هذه الأرض سذج لا يعتمد عليهم ولا يعتد بهم إلا من يريد لمصالحه وأجندات الدول الاستكبارية أن تستمر.
      شعب اليابان وإيران وماليزيا وغيرها من الدول شعوب تنقصها خالية من التركيبات السكانية المرضية ، فمن عندنا هم سرطان خبيث إن لم يحاصر ويجتث فلا شفاء منه.

    • زائر 4 | 2:31 ص

      قيل في الاثر " كما تكونوا يول عليكم "
      يعني: أن الله يولي على الناس على حسب حالهم، اقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [الأنعام:129] أي: نجعل الظالم فوق الظالم، بماذا؟ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] فإذا ظلمت الرعية سلطت عليها الرعاة، وإذا صلحت الرعية صلح الرعاة، وكذلك بالعكس: إذا صلح الراعي صلحت الرعية. اذا صلحت الرعية صلح الحاكم والعكس صحيح

    • زائر 2 | 12:54 ص

      متابع .... طلب سابق من مقال ايران المتحولة ( 2 )
      و نريد اذا أمكن بشكل خاص المواقع و المصادر التي تقدم اراء المعتدلين ووجهات نظرهم و دفاعاتهم ، لا بأس بأي لغة وان كانت العربية أفضل .
      و إذا أحد من الاخوة عنده أشياء مفيدة ومصادر جيدة ( مواقع ، صحف ، كتب ) فليفدنا .

    • زائر 1 | 12:50 ص

      متابع .... طلب سابق في مقال ايران المتحولة ( 1 )
      أجد الأستاذ محمد خبيرا بالشأن الايراني وذو معلومات وافرة في مسائله , المشكلة أن المواقع الايرانية الرسمية الناطقة بالعربية لا تغطي أشياء كهذه ، أريد من الأستاذ أن يرشدنا إلى المواقع و المصادر الجيدة التي تهتم بأمور مهمة كهذه وتقدمها بعناية، وكذلك افضل الكتب التي يراها الأستاذ محمد تقدم صورة صحيحة في هذا المجا ، الصحف والكتاب البارعين في ذلك (الذين يقرأ لهم الأستاذ محمد في هذا المجال شخصيا)
      طلب والأستاذ محمد كعادته لا يرد طلبا من متابعيه .

    • زائر 3 زائر 1 | 1:31 ص

      غريب أمرك! تريد من الكاتب أن يرشدك لمصادره المتاحة لك و لغيرك لكي تتطلع عليها. كل ما تحتاجه هو معرفة جيدة باللغة الفارسية و عقل متفتح (و ليس عقل ساذج يصدق كل الترهات التي يسمعها). و بس الله معاك! أما المصادر باللغة العربية عن إيران فهي معدومة، لأن العربية ليست لغة أكثر الإيرانيين ... ما تجده من مواقع عربية إيرانية هو مجرد بروباغندا من الحكومة الإيرانية.

اقرأ ايضاً