العدد 4892 - الخميس 28 يناير 2016م الموافق 18 ربيع الثاني 1437هـ

هبوط أسعار البترول... هل سنتعلَّم الدرس؟

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

ما عاد موضوع الثروة البترولية العربية، وعلى الأخص في دول الخليج العربية، موضوعاً عادياً حتى يكتفى بمسِّه دورياً ثم يطويه النسيان ليعاد طرحه بعد حين.

هذا ما عوّدتنا عليه مع الأسف سلطات دول البترول العربية إبَّان فترات الهبوط الحاد في أسعار البترول. دعنا نذكِّر بمناسبتي هبوط سعر البرميل في عام 1986 من 42 دولاراً إلى أقل من عشر دولارات، وبهبوطه من 147 دولاراً في شهر يونيو/ حزيران 2008 إلى أقل من 40 دولاراً بنهاية ذلك العام، أي خلال خمسة شهور فقط. والآن، ما أشبه الليلة بالبارحة، نعيش مناسبة هبوط جديد من تسعين دولاراً إلى أقل من 30 دولاراً خلال بضعة شهور أيضاً.

دعنا نسأل: هل غيَّرت محن هبوط الأسعار تلك نظريات ووسائل التعامل مع هذه الثروة الريعية الناضبة؟ أبداً لم تحدث أية مراجعة جادة عاقلة، وغاب أي تفكير استراتيجي وأية منهجية جديدة، لقد استمرَّت الأجهزة الإدارية الحكومية المدنية والأمنية في الانتفاخ والتضخُّم، وارتفعت المشتريات العسكرية إلى الأعلى فالأعلى، واستعمل الرّيع لشراء الولاءات في الداخل والخارج ولتغطية النواقص، وانحصر الاقتصاد في مضاربات العقارات والأسهم وبناء كل ما يجذب عشّاق الرفاهية والبذخ والصرعات الإعلامية بما فيها مدن ومجمعات ومؤسسات الخيال التي لا صلة لها بواقع سكن غالبية المواطنين وثقافتهم وحاجاتهم.

لقد ابتلعت تلك الممارسات كل فوائض أيام يسر الأسعار العالية، حتى إذا ما هبطت الأسعار بدأ التفكير في ممارسة التقشّف المؤقت الذي في أغلبه يطال المواطن العادي أو يربك حياة الذين شُجعوا، من خلال نشر ثقافة استهلاكية عولمية نهمة، على العيش في الديون المتراكمة، وذلك من أجل بهرجات بذخية معيشية مظهرية تؤدُي إلى الأمراض والجنون والتنازل عن كل الحقوق الإنسانية والمواطنة الحقًّة.

نعم، هذا ما حصل، سواء كنَّا نقصد حصوله أو لا نقصد. وأمام ذلك المشهد المفجع بحَّ صوت المفكرين والمثقفين والنشطاء السياسيين وهم يحذرون ويطالبون بانتهاج سياسات مختلفة للتعامل مع ثروات البترول والغاز الناضبة المؤقتة.

ولنترك جانباً الفجوة المعروفة بين المثقفين والأنظمة السياسية في بلاد العرب والمبنية على الشكوك وسوء الظن والاختلاف في المنطلقات الفكرية والإيديولوجية، أفما كان بالإمكان التساؤل عن الأسرار وراء النمو الاقتصادي والمعرفي الهائل الذي حقّقته العديد من الدول الآسيوية، المنتمية لعالمنا الثالث، في مدد زمنيّة قصيرة تقل عن مدة تواجد الثروة البترولية والغازية عندنا؟ تلك الأسرار كانت معروفة ومتداولة، لنذكِّر بأهم تلك العناصر التي كانت وراء تلك النجاحات الآسيوية:

لقد كان المدخل الرئيسي هو معدل الادخار الوطني العالي من حصيلة الناتج الإجمالي المحلي لاستعماله في استثمارات اقتصادية متنوعة، وعلى رأسها بناء أشكال من الصناعات الوطنية الكفوءة الحديثة القادرة على إنتاج بضاعة قادرة على المنافسة والانتشار في الأسواق المحلية والخارجية. لقد وصلت نسبة الادخار في بعض تلك الدول إلى ثلاثين في المئة من حصيلة الناتج المحلي. أفما كان باستطاعتنا نحن أيضاً اقتطاع ثلث عوائد الثروة البترولية لبناء اقتصاد إنتاجي وصناعي مماثل؟

وكان المدخل الرئيسي الثاني هو تهيئة تعليمية ومهنية جيدة لقوى عمل محلية قادرة على القيام بمتطلبات تلك النهضة الصناعية بكفاءة وإخلاص ومرونة، أفما كان ممكناً وبوجود فوائض مالية هائلة أن نقوم بذلك؟

وكان المدخل الرئيسي الثالث هو إنشاء مراكز ودراسات وبحوث، لا لتنشغل بهوس دراسات الأنساب والفولكلورات والتراث المتواضع أو البحوث الأكاديمية البحتة، وإنّما لتطوّر وتحسّن باستمرار القدرات العلمية والتكنولوجية والتطويرية للمنشآت الصناعية والخدمية لتصبح في مستوى عالمي متميِّز قادر على منافسة الآخرين. أفما كان ذلك ممكناً عندنا؟

نعم، لقد كان كل ذلك ممكناً، بل وأكثر، لو توفرت الأنظمة المؤسّسية الرشيدة التي تحفِّز وتدعم وتحمي وتموِّل مثل هكذا نهضة تنموية اقتصادية مستدامة؛ لكن ذلك مع الأسف لم يحدث لانغماس تلك الدول في جحيم الصراعات العربية الإقليمية، سواء السياسية أو الطائفية أو العسكرية أو المخابراتية أو بالوكالة في ساحات الصراعات الدولية. وهو لم يحدث أيضاً لأنه لم تتوافر قط إرادة سياسية وطنية وقومية عروبية منطلقة من فكر علمي حداثي متجاوز لأي فكر تراثي أو تقليدي متخلف ومتصف بالرشد والاستقلالية والشفافية والممارسات الديمقراطية.

ما يأمله الإنسان هو أن تكون مناسبة الهبوط الحاد في أسعار البترول الحالية مناسبة مراجعة استراتيجية ومنهجية صارمة للخروج من عبثية دوّامة التأرجح في أسعار البترول من خلال بناء اقتصاد واجتماع لا ينهار أمام تذبذبات أسعار البترول.

لتدرس دولنا تجربة دولة النرويج في تعاملها مع ثروتها البترولية التي نجحت في حماية اقتصادها الوطني وموازناتها، بطرق كثيرة لا يسمح المجال لذكرها، من الصدمات الاقتصادية المحلية والعولمية الناتجة من الذبذبات الشديدة في أسعار البترول.

لقد أصبح من الضروري أن تكون ثروة البترول والغاز في بلاد العرب موضوع مناقشة واسعة في دوائر الحكم ومجالس البرلمانات والشورى والوسائل الإعلامية ومراكز البحوث وساحات المجتمع المدنية. ستخطئ المجتمعات وأنظمة الحكم كثيراً لو أنها تجاهلت مرة أخرى التعلُّم من درس الهبوط الجديد في أسعار البترول.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4892 - الخميس 28 يناير 2016م الموافق 18 ربيع الثاني 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 4:18 ص

      ...

      هناك دول ... لاترى ابعد من انفها

    • زائر 5 | 2:46 ص

      لو فيها حليب... حلبت

      هل ستتعلم هذه الحكومات؟
      بالتأكيد لأ

    • زائر 4 | 2:43 ص

      هل سنتعلم ؟

      بالمشمش يتعلمون من شب عل شي شاب عليه ما بيتغيرون ولا يتعلمون لان ثقافة الاستئثار متأصلة لا يريدون الا ما يرون وعل الناس السمع والطاعة .

    • زائر 3 | 1:55 ص

      طبعا هذا الكلام لا ينطبق علينا بل هو ينطبق فقط على ا... الذين يقتاتون على الفتات والذين يقفون صفا ليسحقوك عندما تطالب بالتغيير وطبعا ستكون محظوظا عندما يقال لك ان صفوي وخائن ففط ولا يمس رزقك

    • زائر 2 | 11:12 م

      لا

      الجواب: لا
      No bel English

    • زائر 1 | 11:08 م

      باختصار الدول العربية لا تتعلّم طالما ان قراراتها مختزلة ومحتكرة في ايد تتفرّد بصنع مستقبل الوطن

اقرأ ايضاً