العدد 4902 - الأحد 07 فبراير 2016م الموافق 28 ربيع الثاني 1437هـ

الأجيال تحت أقدام الأفيال

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من أهم ما يُكتَب في فضاء التحليل السياسي هو ذاك الصادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. لماذا؟ الجواب: لأنه يضم 160 شخصاً من الدول الأوروبية هم (كانوا أو مازالوا) رؤساء دول وحكومات أوروبية ووزراء خارجية وأعضاء في الاتحاد الأوروبي وأمناء عامّين في «الناتو» والـ «دبليو تي أو»، ومسئولين أمميين ومصرفيين وخبراء وقيادات مجتمعية مدنية أوروبية فضلاً عن الصحفيين.

قبل أيام نشر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مقالاً لـ مارك ليونارد يتحدث فيه عن مستقبل الصراع العالمي وعلى ماذا سيرتكز خلال الفترة القادمة. وهو في الحقيقة مقال جدير بأن يُقرأ بعناية كونه يُصوِّر مشهداً للعلاقات الدولية غاية في الدقة. وقد وجدتُ أن من المفيد جداً مناقشة ما طرحه ليونارد، وخصوصاً أن منطقتنا العربية باتت «عملياً» المرتكز الأساس للصراع الدولي.

يبدأ ليونارد بالحديث عن قضية لم يمضِ عليها زمنٌ بعيد لتحليل ما يريد أن يصل إليه. فعندما أسقطت أنقرة طائرة عسكرية روسية عبر صاروخ جو - جو في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي صُوِّر أن الروس سيُهشِّمون رأس تركيا كما فعلت كاترين الكبرى في القرن الثامن عشر، لكن الذي حصل أن الرئيس الروسي اختار «خياراً» مختلفاً. فقد وقّع بوتين عدة مراسيم اقتصادية وتجارية في الطاقة والصناعة والسلع والمواد الغذائية، وحظَرَ الرحلات الجوية المستأجرة وأوقف السياحة ومَنْح التأشيرات والتلويح (عبر الإعلام الروسي) بشن هجمات إلكترونية مُدمِّرة، حيث يُتقنها الروس.

هذا النوع من الصراع لم تكن ساحته قعقعة السلاح بل وكما سمَّاه مارك ليونارد: «البنية الأساسية المترابطة للاقتصاد الدولي» القائمة على «عرقلة التجارة والاستثمار والقانون الدولي وخدمة الإنترنت وروابط النقل وحركة الناس». لذلك فهو يُسمّيه بـ «حقبة حروب العلاقات المترابطة بين الدول». وهذا النوع من الحروب في حقيقته يؤدي إلى تآكل بطيء في استقرار العالم.

وبالمناسبة فإن هذا السلوك لا تنفرد به روسيا فقط، بل هو يشمل دولاً وتكتلات أخرى كما في أوروبا. فعندما التهمت موسكو شبه جزيرة القرم في العام 2014م لم تبادر أوروبا إلى فعلٍ عسكري بل جمَّدت أصولاً روسية وحَظَرَت التأشيرات على مسئولين روس وأحجمت عن «تمويل استكشاف موارد الطاقة» على الرغم من أن مَنْع روسيا من أخذ القرم كان سيُعيدها إلى حصار جغرافي.

إذاً أصبح الاعتماد الاقتصادي بين الدول «أداة لخدمة أهداف جيوسياسية». قد يقول قائل بأن سلوك العقوبات موجود منذ ما قبل الميلاد، وأن النزعة للمتاجرة أمر عميق في عمارة الأرض، وبالتالي فما الجديد في هذا الأمر؟ يجيب مارك ليونارد بأن الجديد هو: «الترابط بين أجزاء العالم».

فخلال الحرب الباردة كان العالم مشطوراً إلى سماطين: غربي وشرقي. وقد فرض ذلك لأن تكون الروابط الاقتصادية قليلة، ولم يكن هناك فَوَرَان في المعلومة المتدفقة على أثير الإنترنت الذي كان حينها للتو يظهر. وما إن انهار الاتحاد السوفياتي حتى بدا العالم يسير نحو «الترابط والاعتماد المتبادل» وأصبح الخطاب يقوم على «تنمية للجميع» ودعم للاقتصادات الناشئة في إفريقيا وآسيا وغيرها.

هذا الأمر دفع بحركة التجارة والاستثمار لأن تتضخم بشكل لا مثيل له في السابق، ساعدها على ذلك منظومة قوية للاتصالات والتقنية الحديثة التي مدارها اليوم الهواتف الذكية وأزرار تُحرِّك صفقات بمليارات الدولارات. كان ذلك دافعاً للكثيرين كي يؤمنوا بأن الدول وكلما ترابطت قلّ التوتر بينها إلَّا أن ذلك لم يكن دقيقاً. فالصراعات من أجل النفوذ وكسب النقاط استمر كالسابق.

أما الجديد في تلك الصراعات هي أنها اعتمدت على بعضها كي تؤذي نفسها في النهاية! إن الروابط والعلاقات الاقتصادية التي بُنِيَت من أجل الازدهار والتنمية هي ذاتها التي يتم استخدامها في الإفقار وضرب التجارة. وكما كانت النزعة العسكرية في السابق هي الوسيلة للتدمير فإن زعزعة الاقتصاد وهدم الاعتماد المتبادل هو وسيلة التدمير الحالية بين الدول.

وكلما فُرِضَت عقوبات وتلتها عقوبات مضادة مفروضة تفتّت النظام التجاري الدولي، الذي كان في يوم من الأيام وسيلة مُثلَى للتكامل وبناء الدول. وكما يقول ليونارد: «وبالمثل فإن المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف يجرى تهميشها باطراد من قِبَل جيل جديد من أندية الصداقة المتنافسة».

لقد انسحب ذلك على كل شيء بما فيه حركة المعلومة التي تأتي بها الشبكة العنكبوتية للمعلومات؛ إذْ باتت هواجس الأمن والخصوصية المِعوَل القوي لتجزئة الأفكار وحرية تنقلها. وأمام هذا الخطر الداهم بتنا نرى العالم عوالِم، فكل بلد بات يريد الاستقلال أزيد بمصالحه وذاته بدل الاعتماد على الصورة «الطبيعية» للعلاقات الدولية القائمة على النشاط الاقتصادي والاعتماد المتبادل.

ويُعدِّد ليونارد أمثلة على ذلك فيقول: «الولايات المتحدة تسعى لتحقيق استقلال الطاقة. وتتجه الصين إلى الاستهلاك المحلي وتنويع موجوداتها الأجنبية بعيداً عن الدولار وتطوير بديل لنظام سويفت للمدفوعات. وتبني روسيا خطوط أنابيب إلى آسيا للتقليل من اعتمادها على الأسواق الأوروبية». وهذا الأمر يبدو مفيداً في ظاهره كونه يُعزِّز المزيد من استقلال الدول إلاَّ أن الواقع غير ذلك.

فإعادة تقسيم العالم إلى جهويات اقتصادية يعيق من عملية التنمية ويجعل الموارد الأحادية وغير المتماثلة وسيلة للصراع والابتزاز، وهو ما يعني تعميقاً لمفهوم العِداء والحروب ومزيداً من الخوف على مستقبل الأمن والسلام الدوليين، ليصبح مستقبل الأجيال تحت أقدام هذه الأفيال الهائجة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4902 - الأحد 07 فبراير 2016م الموافق 28 ربيع الثاني 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:46 م

      كتاب تستفيد منهم كهذا الكاتب المحترم وكتاب في صحف صفراء لا تستفيد منهم سوىالشتيمة والكذب

اقرأ ايضاً