العدد 4909 - الأحد 14 فبراير 2016م الموافق 06 جمادى الأولى 1437هـ

الربيع العربي... ملاحظات عابرة

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

منذ بداية الحراك الشعبي العربي عام 2011 أطلق المحللون صفة الربيع العربي، وهو وصف مجازي لإيجاد صلة فيما بين هذا الحراك وما يمثله من عودة الحياة والحيوية إلى المجتمع العربي، بعد شتاء تاريخي طويل وسبات سياسي أطول من جهة، وبين عودة الربيع في الطبيعة وما يعنيه من انبثاق جديد لكل عوامل الحياة في الطبيعة بعد بيات شتوي من جهة أخرى.

هذا، وعلى رغم الفرق البيّن فيما بين ربيع الطبيعة وربيع الشعوب، حيث أن الأول محكوم بقوانين الطبيعة الحتمية والثاني بقوانين المجتمع الاحتمالية، نقول مع ذلك يوجد ما هو مشترك، ويتمثل في أن ربيع الطبيعة يعيد الحياة للأشياء بعد فترة كمون كما يعيد تنوعها وبهاءها، بينما يعيد ربيع الشعوب ومن خلال التجربة التاريخية إلى الشعوب قدرتها على الحياة والمبادرة في الإمساك بمصيرها، ويظهر أيضا أجمل ما لديها من إمكانات باتجاه التقدم والعدالة والكرامة. يعيدها إلى مركز التاريخ بدلا عن هوامشه.

لذلك فإن الربيع العربي بمعنى من المعاني، هو محاولة للخروج من حالة الموات السياسي لعقود من الزمن الذي تعاني منه البلدان العربية.

وأيضا، فإن تسمية هذا الحراك بالربيع إنما جاء جريا على نموذج تلك الحركات الشعبية التي اجتاحت أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر (ثورات 1848) ثم تلك الحركات التي قامت في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين ممثلة في ثورة المجر 1956 وربيع براغ في تشكوسلوفاكيا في عام 1968 وثورة الطلبة والشباب في باريس في نفس السنة المعروفة بحركة مايو 1968 والحركة الطلابية البولندية.

هذا شيء أو جانب من الرؤية. أما من الجانب الآخر، فمن يرى أن ما حدث من حراك إنما هو خريف أو شتاء قارس وليس ربيعا، بدليل ما آلت إليه أمور هذا الحراك من دمار شامل لا تخطئه العين من قبيل ما يحدث في سورية وفي ليبيا وفي اليمن وفي تونس وفي مصر وفي المنطقة عموما. والأفق مفتوح على أسوأ الاحتمالات.

والحقيقة أن هذا الرأي الأخير له مسوغاته وخاصة من حيث النتائج التي وصل إليها الوضع العربي. ولكن ما لا يراه القائلون بهذا الرأي هو تجاهلهم البدايات الواعدة والسلمية لهذا الحراك بمجمله، وقد كان يبشر بكثير من الأمل والتحول الديمقراطي السلمي للنظام السياسي العربي، فكل الحراك بدأ سلميا.

ولأن الربيع العربي لا تحكمه قوانين الطبيعة، بقدر ما تحكمه قوانين المجتمع وما يحتويه من موازين قوى وصراعات، بين من ينشدون التغيير والتجديد في الحياة وبين من يرفضون التغيير؛ كان لابد أن يتم تحويل هذا الربيع الواعد إلى جحيم وحرفه عن مساره الطبيعي والنهائي. وبالتالي تشويش الرؤية على كثير من الناس، وخاصة المثقفين والمتمصلحين من الأوضاع الراهنة. ولأن ربيع الشعوب العربية بخلاف ربيع الطبيعة محكوم بالمصالح؛ فمن الطبيعي أن تتداخل وتشتبك فيه جميع القوى المعنية، تارة دعما للربيع بما يناسبها هنا، ومنعا للربيع الذي لا يناسبها هناك، والتعامل مع هذا الربيع بانتقائية وازدواجية أو بعنف ليس له مثيل.

إن الصراع المميت والازدواجية والانتقائية والعنف وما رافقها من سياسات تكيل بأكثر من مكيال، هذه كلها عناصر هي التي لعبت دورا مفصليا ومقررا في تحويل الربيع إلى دمار؛ لأن القوى غير الراغبة في التغيير ليس من مصلحتها نجاح هذا الربيع، أو أن تتحول البلدان العربية تحولا ديمقراطيا. فلابد من إفشاله والإيحاء بأنه ليس بالإمكان أحسن مما هو كائن وقائم. أما الشيء الأهم في انحراف الربيع العربي فهو أن الخلافات العربية والحساسيات القائمة فيما بينها لعبت دورا محوريا في إفشال الحركة الذاتية للربيع، ليصبح متحركا بغيره من خلال قوى وتجاذبات من خارجه، وفقا للمصالح المتباينة للفاعلين على الساحة.

ومع كل ذلك، فإن ما حدث لربيع الشعوب العربية ليس نهاية التاريخ، بل هو يمثل حلقة في سلسلة طويلة من الميل الشعبي الدائم إلى تغيير الأوضاع إلى ما هو أفضل، والحد من الاستئثار بالثروة والسلطة ومنع الفساد المستشري في مفاصل النظام العربي.

ومهما قيل في هذا الربيع من قدح من قبل البعض ومدح من قبل البعض الآخر، فإن الحركات التاريخية الكبرى لا تتوقف نتائجها بمجرد توقفها، بل تستمر مفاعيلها في الزمن، كما انها لا تسير كحركات في اتجاه واحد أو تأتي بنتائج بكبسة زر، لتصل إلى أهدافها مرة واحدة، بل تسير في طرق متعرجة ومتداخلة ومعقدة وملغمة في كثير من الأحيان، وبحاجة إلى نفس طويل وبصيرة ثاقبة ترى النور في آخر النفق المظلم.

الربيع العربي برغم كل شيء يظل تجربة تاريخية مليئة بالعبر، وبحاجة إلى دراسة معمقة من قبل المفكرين والمثقفين والسياسيين وكل المعنيين بحاضر ومستقبل هذه المنطقة الحيوية من العالم. بحاجة للإجابة على سؤال مهم ومؤرق مرتبط بهذا الربيع مفاده: لماذا استعصاء الديمقراطية في منطقتنا، هل هي لعنة التاريخ أم مكر التاريخ؟

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 4909 - الأحد 14 فبراير 2016م الموافق 06 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً