العدد 4914 - الجمعة 19 فبراير 2016م الموافق 11 جمادى الأولى 1437هـ

الفن من أجل التشافي

منصورة عبد الأمير mansoora.amir [at] alwasatnews.com

أتجنب دائماً الكتابة عن المعارض الفنية، ولعلني لا أكشف سراً حين أقول بأنني ألجأ دائمًا لجعل الفنان يتحدث عن معرضه، فأنجو أنا من مقصلة الفنانين والنقاد وحتى القراء العاديين. لكن الحال اختلف مع معرض الفنانة اللبنانية آني كاركدجيان المقام في البارح للفنون التشكيلية تحت عنوان: «قداس Requiem».

هذه المرة زرت المعرض يوم افتتاحه، كانت الفنانة حاضرة، أخبرتها برغبتي في لقائها، لكنني ما إن تجولت بين لوحاتها حتى وجدتني أمام حال آخر. أجبرتني اللوحات على التوقف طويلاً، التأمل عميقاً، والصمت كثيراً. هذه اللوحات الـ 34 والمتنوعة بين الباستيل على ورق والأكريليك على كانفس، تضجُّ بِكمٍّ لا يوصف من الألم والمعاناة. تزين جدران البارح منذ (التاسع من فبراير/ شباط 2016) لتحكي قصة بطلتها الفنانة آني كاركدجيان وربما جميع من عايشوا الأهوال التي عايشتها.

تمتلئ هذه اللوحات بصور تكشف عن معاناة بشرية، يحق لي أن أسميها فادحة. يغلب عليها طابع سريالي، لعله مسئول عن كشف جزء كبير من التشوه النفسي الذي تعاني منه شخوص اللوحات، بضخامة أجسادها، وبالحزن واللامبالاة اللذين يبدوان من عيون تلك الشخوص. وما بين لوحة تصور امرأة تلتفت إلى الخلف، برأسها الملتصق فوق جسدها والمنحني انحناءة غير ممكنة واقعيًّا، وأخرى يثبت فيها رأس امرأة على مكعب، فيما تنساب خصلات شعرها كدماء تسيل من رأسها، من عينيها، من أنفها، ومن بين شفتيها، وصولا لأزهار تنبت وسط أجساد مشوهة، تغرس جذورها في الأقدام والأيدي وفي وسط الأكف. قد يرمز ذلك للأمل ولطاقة الحياة التي تأتي، لكن وسط كثير وطويل من التوحش والمعاناة والقسوة والألم والوحدة والانعزال.

بشكل عام، تكشف لوحات المعرض كمّاً هائلاً من العنف والتوحش النفسي، وتجعل الزائر يتوقف كثيرا وطويلا أمام لوحة هنا وأخرى هناك، لا ليتأمل خطوط الفنانة وأسلوبها الفني، بل ليبحر في عوالم لوحاتها.

بدا لي المعرض كمحاولة للتشافي من أمر جلل أصاب روح ونفس كاركدجيان. وددت سؤالها، لكن الكتيب المصاحب للمعرض كان كفيلاً بأن يقدم لي أجوبة شافية. كشفت آني عبر هذا الكتيب، عن كم «فادح» من الألم والعنف والقسوة تعرضت لها، كلبنانية عايشت أهوال الحرب الأهلية في بلادها. تلونت طفولة الفنانة بفزع وأهوال تلك الحرب، ثم بتأثيرات تلك الأهوال على من عايشوها ونجوا منها. هذه الحرب التي أخذت من الأرواح ما أخذت، وشوهت من النفوس ما شوهت.

تقول آني إنها منذ أن بلغت السادسة من عمرها، وجدت نفسها هاربة مع أسرتها من جحيم تصفية عرقية، تعرض لها الحي الذي تسكنه في بيروت. هربت إلى الجبال، وكان ذلك أول لقاء لها مع الخوف، والأرق والكوابيس، والتوحش والعزلة والقسوة وهي مشاعر لن تتوقف عند ذلك الحد. بعد ستة أعوام، ستواجهها نكبة أخرى ستسكن معظم أعمالها الفنية لاحقاً. ستفقد آني والدها، الأقرب إلى قلبها، مقتولاً في حادثة غدر على يد أقرباء. ستظل آني بعدها تتواصل مع والدها عبر الرسائل، رافضة التسليم بفكرة موته ورحيله عن عالمها. لن تبعث رسائلها، وسيظل والدها ساكناً روحها وعقلها ومن ثم لوحاتها، وستظل آني تتشافى من آلامها وأهوال الحرب الغادرة عبر الفن. معرض آني كركدجيان يستحق أكثر من زيارة. يستمر حتى (29 فبراير 2016) في البارح للفنون التشكيلية.

إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"

العدد 4914 - الجمعة 19 فبراير 2016م الموافق 11 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:01 ص

      السلام عليكم.. للنقد الفني معايير كثيره اهمها الروح .. سطور قليله لا تكفي لتصور لنا الجمال أو ما رأي الناظر احسست الكلمات قليله ولكن اشكرك لان نبذتك عن الفنان هي ما دعتني للذهب اليه والي فنه اعتب عليك ان الفن للتشافي الفن روح كيان قائم ليس اداه للتشافي هو بذاته شفاء وداء. البلاغة التي يستلزمها الحدث والتشويق.. احترمت صدقك بانك لا تحبين النقد الفني وانك تأخذين المشهد وروحه من فم الفنان نفسه وهو الاصدق والاجمل بالطبع... ☺☺

    • زائر 2 زائر 1 | 3:10 م

      كاتبة مقال رائعة جداً ..

      الاستاذة الجميلة منصورة .. بالرغم من انتي ليس لدي ميول في هذا النوع من المعارض، إلا ان أسلوبك في الكتابة ساحر وسلسل وشوقني كثيرة للحضور .. اتمنى ان نقرأ لك مقالات في مواضيع أخرى ????

اقرأ ايضاً