العدد 4917 - الإثنين 22 فبراير 2016م الموافق 14 جمادى الأولى 1437هـ

أعلام في التسامح والسلام: محفوظ النحناح

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

لا شكّ أنّ الحالة الجزائريّة أواخر القرن الماضي لا تختلف كثيرًا عن بعض الحالات العربية الدامية في العقد الثاني من هذا القرن ولاسيّما في سورية والعراق واليمن وليبيا... والأكيد أنّه من العسير على الذاكرة العربية عمومًا والجزائرية خصوصا أن تنسى العشرية الدامية التي مرّت بها الجزائر، كما أنّ من الأكيد أيضا أنّ الذاكرة العربية لن تنسى أبدا هذا التطاحن الطائفيّ والاقتتال المذهبيّ وصراع المصالح الدولية والإقليمية الذي تدور رحاه في أكثر من قطر عربيّ.

ولاتزال التجربة الجزائرية في تلك الفترة كتابًا مفتوحًا في حاجة إلى تدارس مستفيض وتحليل عميق، ولايزال الخلاف بشأن الفاعلين الحقيقيين لتلك الحقبة السوداء قائماً. لكن الأكيد أنّ شخصيّة محفوظ نحناح تأبى النسيان، فقد حظيت باحترام الجميع؛ لدورها العظيم في ترسيخ مبادئ الحوار وعملها الدؤوب على صناعة السلام في الجزائر آنذاك. لذلك حَرِيٌّ بنا، والحال في بعض الدول العربية على ما هي عليه، أن نتخذ محفوظ نحناح شخصية هذا المقال من أعلام في التسامح والسلام.

كان مولده بمدينة «البليدة» في الجزائر العام 1942، وسط عائلة محافظة؛ إذ نشأ في أحضان القرآن الكريم، واللغة العربية، ودرس في المدرسة الإصلاحية، التي أنشأتها الحركة الوطنية، وأكمل مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي في الجزائر، إلى أن حصل على ليسانس لغة عربية، ثم واصل مسيرته العلمية في جامعة القاهرة.

وكانت مسيرته السياسية ثريّة؛ فقد ساهم مع إخوانه محمد بوسليماني ومحمد بومهدي العام 1962 في ثورة التحرير الجزائرية وهو في ريعان الشباب، إذ كان عمره 20 عاماً. كما مرّ محفوظ نحناح العام 1975 بتجربة السجن بسبب مخالفته سياسة الرئيس هواري بومدين. وكان السجن فرصة ثمينة للاستزادة من العلم من جهة، والمراجعة للأطروحات الفكرية والسياسية من جهة ثانية، وخرج منه العام 1980 ليواصل المسيرة. ومع انفتاح أجواء الحريات في عهد الرئيس الجزائري الشاذلي من جديد، راح محفوظ نحناح يراجع نفسه؛ فأسس «حركة مجتمع السلم» الجزائريّة، وتمكّنت الحركة من تحقيق مكاسب سياسية كبيرة؛ إذ شاركت بحقائب وزارية في أكثر من حكومة. ووصل محفوظ نحناح بتجربته السياسية إلى أقصى مداها إذ ترشح للانتخابات الرئاسية العام 1995، وفاز رجل الوسطية في الإسلام السياسي بالجزائر بالمركز الثاني وحصد ما يزيد على 3 ملايين صوت.

أدان رئيس حزب «حركة مجتمع السلم» العنف والإرهاب وكل مظاهر الغلو في الدين منذ بداياتها، واعتبرها غريبة عن الإسلام والمسلمين، فقد كان لا يؤمن بالعنف، ويميل إلى الوسطية والاعتدال. وكرّس حياته للدفاع عن العقيدة الصحيحة وقيم الوسطية والاعتدال، ورأى أن الخطأ الكبير الذي ارتكبته السلطة لا يعالَج بخطأ حمل السلاح، وجزّ الرقاب، وثقافة التدمير والحقد. ودفعت حركته ضريبة غالية وهي اغتيال أكثر من 500 من أنصارها، من بينهم الشيخ محمد بوسليماني.

آمن محفوظ نحناح بضرورة التواصل بين مختلف شرائح الشعب الجزائري، واعتماد الحوار والانفتاح والتعاون، ورفض فكرة الاستئصال لأية جماعة مهما يكن فكرها، واعتبر الإسلام جامعاً أساسيّاً للشعب الجزائري، بل نادى إلى التواصل والحوار حتى مع غير الإسلاميين (من اليساريين أو المتفرنسين) سعياً منه إلى إشاعة أجواء السلم الأهلي، وإعادة بناء الجزائر وطناً لجميع أبنائها. وخلال هذه المسيرة السياسية والفكرية الخصبة أصدر نحناح كتابًا بعنوان: «الجزائر المنشودة.. المعادلة المفقودة: الإسلام.. الوطنية.. الديمقراطية».

وشارك محفوظ نحناح في عدة مؤتمرات وملتقيات دولية في أوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا وساهم بأوراق علمية ثريّة في مواضيع تتعلّق بقضايا الإسلام والغرب وحقوق الإنسان والديمقراطية. وله مساهمات في المجال الثقافي في مختلف المجلات والصحف العربية والملتقيات الوطنية والدولية والحوارات الإسلامية المسيحية في إيطاليا والسويد. ومن أهم الأطروحات التي دافع عنها نحناح: الشورى، والديمقراطية، والتطور، والتسامح، والتعايش، والاحترام المتبادل، واحترام حقوق الإنسان، ومشاركة المرأة في مجالات الحياة، واحترام حقوق الأقليات، وحوار الحضارات، وتوسيع قاعدة الحكم، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الحريات الشخصية والأساسية، الوسطية والاعتدال، وتجسير العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

والتقى أثناء زياراته لهذه الدول بزعماء وكبار مسئولي هذه الدول في كل من: فرنسا، وإسبانيا، والسويد، والولايات المتحدة الأميركية، وألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وسورية، والأردن، والمملكة العربية السعودية، والسودان، وقطر، والكويت، والمغرب، وليبيا... وغيرها من الدول، فكان خير سفير لبلاده، كما قال الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في تأبينه.

إنّه، وإنْ قُدِّر لـ «رجل الحوار»، هذه القامة العلمية والوطنية، أن تغيب جسدًا، فإنّ الأمل كلّ الأمل أن يستمرّ نهجها في الفهم الوسطيّ المعتدل، والحوار والمشاركة والحرص على الوحدة الوطنيّة، وأن ينتشر هذا الفكر في دول المنطقة العربية إذ تعصف عواصف الإرهاب وتقتلع الأخضر واليابس وتدمّر البشر والحجر.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4917 - الإثنين 22 فبراير 2016م الموافق 14 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:58 م

      ما أحوجنا اليوم أستاذي إلى رجل مثل محفوظ النحناح...ما أحوجنا إلى دعاة همهم الأوّل والأخير نشر السلام والسكينة ...دعاة ينبذون العنف والغلو ...

    • زائر 2 | 4:43 ص

      «رجل الحوار»،
      والرجال قليل

    • زائر 1 | 1:37 ص

      أكيد يا أستاذ
      مستحيل ننسى
      والأكيد أنّه من العسير على الذاكرة العربية عمومًا والجزائرية خصوصا أن تنسى العشرية الدامية التي مرّت بها الجزائر، كما أنّ من الأكيد أيضا أنّ الذاكرة العربية لن تنسى أبدا هذا التطاحن الطائفيّ والاقتتال المذهبيّ وصراع المصالح الدولية والإقليمية الذي تدور رحاه في أكثر من قطر عربيّ.

اقرأ ايضاً