العدد 4945 - الإثنين 21 مارس 2016م الموافق 12 جمادى الآخرة 1437هـ

تجارب الشيخ مغنية

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

لعل الشيخ محمد جواد مغنية (1904 - 1979م) من أوائل خريجي الحوزة العلمية في النجف الأشرف الذين تنبهوا لأهمية الكتابة والتأليف، وانخرطوا فيها بحيوية تدعو للإعجاب، يوم أن كانت الكتابة في شئون الحياة والتأليف في الحقول المعرفية البعيدة عن الفقه والأصول ضرباً من التجديف، أو هي في الأقل، مسلكاً عبثياً لا يحسن للطالب الجاد تنكبه وارتياده.

أحببت مغنية، لأنه واضح، وكثيراً ما يخدم الوضوح الأفكار الجيدة، ويخدم بالتالي حجم انتشارها بين الناس، مغنية واضح وضوحاً يجسّده هذا النص الذي يقول فيه: «الدين بسيط جداً، وواضح جداً بسيط بساطة الخير، لأنه هو الخير الذي يقول لك: لا تقتل... لا تسرق... لا تزنِ... لا تكذب... لا تظلم... لا تتجسس... لا تخن أحداً... لا تأكل الربا... مُدّ يد العون لكل محتاج إليك».

وأحببت فكر مغنية لأنه كان حاضراً بين الناس في مجرى الحياة في ستينات القرن الماضي بكل شواغله الاجتماعية والفكرية، يوم أن كانت الكثرة الكاثرة من شيوخ الدين تقيم في كتب عتيقة لا علاقة لها بالحياة وشئون الناس وقضايا المجتمع، إلا من شخصيات قليلة من المثقفين الإصلاحيين في إيران حملوا لواء التنوير الثقافي وساهموا في بعث الفكر الإسلامي وتقديمه للجيل الشاب بطريقة معاصرة وعلى رأسهم الشيخ مرتضى مطهري (اغتيل في 1979) وعالم الاجتماع المعروف علي شريعتي (اغتيل في 1977)، أما النماذج العربية فاستثناءات متناثرة يتقدمها الفيلسوف العراقي المأسوف عليه محمد باقر الصدر (اغتيل في 1980)، ويا لها من مفارقة مؤلمة أن يتعانق الرأي الحرّ في عالمنا مع المصير المأساوي للمفكرين الأحرار.

وبالعودة إلى مغنية، فإنني أميل لاعتباره الوريث النجيب لحركية السيد محسن الأمين (ت 1951) الإصلاحية،؛ فالاثنان امتلكا مشروعاً إصلاحياً جريئاً، والاثنان تلبستهما اشتغالات فكرية ضخمة متقاربة إلى حدّ كبير، والاثنان أيضاً واجها استهدافاً مرّاً من داخل المؤسسة الدينية ذاتها بسبب آرائهما التي اتسمت بالجرأة.

وعندما كتب مغنية ترجمة حياته في 30 صفحة وختم بها كتابه (الإسلام مع الحياة) لم يكن يعلم أن هذه الصفحات بما تركته في نفوس القراء من نفاذ وتأثير ستدفعه لكتابة تجاربه بتفصيل أكبر وحماس أشد، يقول: «إن حياة البائسين ونضالهم خير عبرة وعظة، تعلم الشريد كيف يثق ويأمل، والمستضعف كيف ينهض ويتحرر، والمكلوم كيف يصبر ويعمل لخلاصه وشفائه». (التجارب، 16)

ومغنية رجل صبور، لديه جَلَد غير عادي على التأليف، ومثابرة عجيبة، وقد وجدته يوصي قراءه بـ «الصبر والعمل المتواصل بلا كلل وملل» فـ «كل من سار على الدرب وصل». وقد سجل بعض رحلاته في كتاب (من هنا وهناك)، وذكر الشيء الكثير من مشاعره وتجاربه في بعض مقدمات كتبه كـ (التفسير الكاشف) و(في ظلال نهج البلاغة) و(فقه الإمام جعفر الصادق) وهذه (هي الوهابية) و(فلسفة التوحيد) و(معالم الفلسفة الإسلامية)، وقد أدرج كل هذا في كتابه الذي خصصه لاستعراض تجاربه وذكرياته.

يقول مغنية في تجاربه: «كنت طالباً في النجف الأشرف، أسجل لنفسي في دفتر صغير بعض ما أسمع وأقرأ، ومازلت أحتفظ به... وجريت على عادتي هذه حتى اليوم، وقد مضى على الدفتر النجفي أكثر من 50 عاماً». التجارب، ص 20]، وقد وجدتُ أن الكبار يحرصون على كتابة مذكراتهم اليومية وأفكارهم وتجاربهم، وكثيراً ما تتحول هذه المذكرات الشخصية كتباً يُكتب لها الخلود والبقاء الطويل، ومن أبرز المدونات الشخصية التي تحولت لأمهات كتب في مجالها، كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام)، أحد أهم وأشهر المتون الفقهية التي يدرسها طالب العلم في المراكز والمدارس والمعاهد الاسلامية، والكتاب للشيخ محمد حسن النجفي (ت 1266هـ) الذي نُقل عنه قوله عن كتابه الجواهر: «ما كتبته على أن يكون كتاباً يرجع إليه الناس، وإنما كتبته لنفسي حين كنت أخرج إلى (العذارات) وهناك أُسأل عن المسائل، وليس عندي كتب أحملها لأني فقير، فعزمتُ على أن أكتب كتاباً يكون لي مرجعاً عند الحاجة».

لقد كان فلوبير يقول: «الكتابة هي طريقة في الحياة».

ويقول الروائي البيروفي ماريو باراغاس يوسا: «الأدب هو أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة» ولذلك اختار مغنية أن يتخذ من الكتابة طريقة «للوقاية من الكآبة» التي تلف مجتمعاً غارقاً بعاهاته المزمنة.

يقول محمد حامد الأحمري: «طالما تأملتُ حياة القراء والمفكرين وتراجم حياتهم، فما وجدتُ منهم مستغنيا عن الأدلة من الكتب التي تدل على أمثالها، أو الرجال الذين تحاورهم فيفتحون لك في المعرفة آفاقاً لم تكن تتوقعها. فالكتب الجليلة لا تغنيك عن نابغة يقدح همتك، ويثير عزيمتك، ويفتق لسانك». مذكرات قارئ، ص 80].

أما الشيخ مغنية فيقول :«أنا من أفنى في المطالعة والكتابة عمره» التجارب، ص 21]، ولقد اتخذ مغنية من المطالعة والكتابة «طريقة في الحياة»، فأدرك أن الهدف من القراءة والكتابة حراثة العقل وتجديده، وإنقاذه من الترهل والموت البطيء وهي كذلك بالنسبة للمجتمعات الحيّة.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4945 - الإثنين 21 مارس 2016م الموافق 12 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:59 ص

      لقد أحسنت واجدت بالكتابة عن هذا العالم الزاهد الضلع فهو يستحق أكثر من هذا ولك الشكر

    • زائر 2 | 12:45 ص

      جزاه الله خير الجزاء فما قام به من جهد في التأليف لهو جهد مشهود له ويشار له بالبنان

    • زائر 1 | 12:44 ص

      شكرا لك استاذ لذكرك هذا العالم الجليل المتنور الذي كتب بلغة يفهما كل افراد المجمتمع.شخصيا استفدت من كتب المرحوم الشيخ مغنية الكثير،فأنا اعده المصدر الاول لي للثقافة الاسلامية بكل معانيها المتقدمة.فتفسير الكاشف، ومع علماء النجف، علي والقرآن، التفسير المبين،الله والعقل،نفحات محمدية،الفقه على المذاهب الخمسة،الشيعة والحاكمون و...كلها اسفار لاتقدر بثمن،بل ان الشيخ رحمه الله ومن شدة تواضعه كان يكتب على كتبه:تأليف محمد جواد مغنية مستغنيا عن كل الالقاب.
      رحمك الله ياشيخ محمد مغية وادخلك فسيح جناته.

اقرأ ايضاً