العدد 4951 - الأحد 27 مارس 2016م الموافق 18 جمادى الآخرة 1437هـ

«سلامة» وحياتنا بعد الخمسين

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

على عتبة الستين من عمره كتب المفكر المصري سلامة موسى كتابه «حياتنا بعد الخمسين»، وتمنّى على جميع من يمرون بهذه المرحلة العمرية أن يقرأوه ويدلوا بآرائهم. في هذا الكتاب، كان نافذ البصيرة ولم يبتعد بعيداً عن واقع الزمن الذي نعيش في تشخيصه لوضع المتقاعدين في الستين، إذ وجد إن حياتهم خواء، خالية من الهم أو الاهتمام، يتملكهم شعورٌ أن لا مستقبل مع الشيخوخة إلا بانتظار الموت. لقد فقدوا إيقاع الحياة، لا يستمتعون بها بل يقاسونها، ويعانون من أمراض الجسم وخواء الذهن وضمور النفس. بعضهم يستغرقون في النوم بعد الظهر لساعات طويلة، وينسون الأسماء ويصخبون في البيت. بعضهم ضيعوا أهدافهم وانقطعت الصلة بينهم وبين عصرهم، فهم في ألم دائم أو تذمر مستمر.

لا للتعفن في المقاهي

قد يختلف الكثيرون حول نظرته القاسية والمتشائمة، بيد أن آخرين يجدونه محقاً في وصفه الانتقال من الشباب إلى الشيخوخة التي رأى «بأن من بلغ الخمسين أو حواليها قد هدأت نفسه، فقل استطلاعه وسكنت عواطفه، وأن ركود المسنين وترهلهم نفساً وجسماً، مرده الوقار الزائف الذي يجيز لهم التعفّن على الكراسي في المقاهي والقهاوي، ولا يجيز لهم الوثب والجري في الملعب أو على الشاطئ، في الوقت الذي تتطلب فيه الشيخوخة التحدّي وعدم الاستسلام، وإعداد الجسم والذهن والعاطفة لنشاطٍ لا يركد»، مضيفاً «صحيح أن نشاط المرء في هذا العمر يبطؤ، لكن العدو الذي يجب مكافحته هو الركود الآسن الذي نركن إليه فيما يشبه لذة الموت، كارهين ثقافة الذهن والجسم، قانعين بالاستقرار دون الاستطلاع حتى تبلى العواطف وتموت». وتساءل قائلاً: «ما قيمة الإنسان إذا لم يستمتع بنشاط الجسم والذهن والعاطفة؟».

طالَبَنا سلامة ومنذ عقود مضت، أن لا نستقيل من الحياة بعد التقاعد ولا نركن إلى البطالة القاتلة، لما لها من تأثير سيء على صحة الإنسان، ونصَحَنا بالابتعاد عن الركود والتثاقل في المشي أو الانحناء وفقدان خصائصنا السابقة في هندام الزيّ ودقة لغة الكلام الذي نعاني منه، واستبدال ذلك بالحركة والسير بصورة سريعة توحي بالنشاط وتجنب الحركات التي توحي بالتعب والعناء، كالإرتماء في الكرسي أو السير البطيء أو القعدة المنحنية أو النهوض المتثاقل، منوّهاً إلى أن ما يستجد علينا من متغيّرات ليس مرده إلى بناء الجسم أصلاً، بقدر ما يعود إلى إحساس نفسي باطني قد لا نعلم به، إحساسٌ يوهمنا أن التقاعد من المنصب والعمل ينطوي على الإقالة من الحياة، وأن الواحد منا أصبح غير نافع، والمجتمع ينتظر وفاته. في هذا الصدد يفرّق سلامة بين الموظّفين الرسميين وبين أصحاب الأعمال الخاصة الذين يباشرون مصالحهم ويستمرون بنشاط في أعمالهم بهذا العمر، فيكونون أكثر يقظةً وتنبهاً ونشاطاً ومرونةً في أجسامهم، وذلك لأن النفوس في حالتهم يقظة باهتمام للكسب، وبقوة دافعية لا يعطلها قرار رسمي بالإحالة إلى التقاعد. والحل كما يلخّصه، ليس المطالبة بإبقاء التوظيف أبدياً، إنّما بالتهيؤ الجسمي والنفسي والذهني، من خلال السلوك الحيوي وممارسة الرياضة التي ترمّم أجسامنا، وعدم الاستسلام للكسل والتخمة التي تفاقم الأمراض، فضلاً عن الاهتمام بالهندام بما يكسبنا من ثقة وأناقة وبساطة في آن.

القراءة تقاوم النسيان

تقنيات متعددة يقترحها سلامة موسى لمقاومة الشيخوخة، أولها التهيؤ النفسي الذي يتم بالاهتمام بالصحة النفسية، وبما يترجم من سلوك وتصرف حكيم يبتعد عن الغيرة والحسد والحقد والخوف والقلق، كون هذه الهموم الأكّالة تستهلك جسم الإنسان وتحدث به أمراضاً كثيرة.

إلى جانب ذلك تنويع الاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية والفنية والذهنية، كالتعلّق بهواية ارتقائية منتجة تبعث على التفاؤل والاستبشار، أو أداء عمل مفيد يشعرنا بكرامتنا وفائدتنا للمجتمع، كالاشتراك في الأندية والجمعيات، وأن لا نكفّ عن العمل وتحمل المسئوليات والهموم والاهتمامات ولكن باعتدال، فضلاً عن العناية باختيار الأصدقاء، فالصداقة لها قيمة ومكانة، وأثر إيجابي في تخفيف الوحدة، إلى جانب ارتياد المسارح والمشاركة بالأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تساهم بإبقاء النفس حيةً ويقظة العواطف.

أما التقنية الأخرى فتتمثل في التهيؤ الذهني والمشاركة في الحركة العقلية من خلال القراءة والاهتمام بالقضايا الحيّة، على أن تكون القراءة جزءاً لا يتجزأ من نشاطنا اليومي، فهي تحول دون النسيان الذي يعرقل التفكير المثمر ويوحي بالضعف والهزيمة، فيزداد المسن سوءاً وتراجعاً. والقراءة اليومية تبقي المعاني ماثلةً في أذهاننا بشبكة من الكلمات، وتبقي الذاكرة حيةً والتفكير مثمراً حتى لو بلغنا المئة من العمر.

لا لذكريات الماضي العقيمة

يسوغ لنا سلامة تقنياته لمقاومة شبح الشيخوخة من خلال حكاية الأميركية ليليان مارتن، الأستاذة الجامعية التي افتتحت لها مكتباً «مدرسة» بعد تقاعدها وهي في عمر الخامسة والستين، فكانت مدرستها مقصداً إرشادياً لمن تجاوز الخمسين للسير في الطريق الجديدة والآفاق الباعثة على النشاط. تعلمت ليليان سياقة السيارة في السادسة والسبعين، وقطعت القارة الأميركية بعدها عرضاً بين المحيطين الهادي والأطلسي ست مرات بسيارتها، كما شرعت تتعلم الأسبانية بين الثمانين والتسعين من عمرها.

تقول ليليان إن المسنين يعانون من الخوف والقلق، مثلهم مثل الصبيان، ويتّخذون موقفاً دفاعياً يؤدي بهم كما في حالة الأطفال إلى كراهية التغيير، وإلى العناد والاهتمام بالذات، والنشاط في حالتهم هو العلاج الأمثل، فهو يحرّك الذهن وينشد العواطف ويفتح آفاقاً جديدة للتفكير والإحساس. وهذا بالطبع لا يتأتى إلا بوضع أهدافٍ يستقبل بها المسنون الدنيا، بدلاً من الاستدارة والاستغراق في ذكريات الماضي العقيمة.

وترشد ليليان من يشتكي النسيان منهم، بقراءة الجريدة بصوتٍ عالٍ كي تبقى ألسنتهم مرنةً، وأذهانهم ذاكرةً. وتنصحهم بكتابة خلاصات لما قرأوا، يعودون إلى مقابلتها بالأصل، كي يقفوا على درجة قوة ذاكرتهم، وتحملهم إلى الدراسة التي تبقى الذاكرة حية متنبهةً لشئون الدنيا، والسعي إلى تحقيق أهدافٍ في المستقبل، حتى لا يلتفتوا إلى الوراء ويعيشوا سائر أعمارهم بالذكريات، وأن يتخذوا سلوكاً يؤدي إلى إحياء الشباب، كالمشي السريع والملابس الحسنة والتأنق. وأن يعاينوا ما حولهم في يقظةٍ دون الاستسلام للخواطر والأحلام، وزيارة الأمكنة التي لم يزوروها من قبل في مدينتهم، والأهم دائماً التمرين الرياضي الخفيف كي تبقى المفاصل مرنةً، والعناية بالملابس لما لها من أثر إيحائي.

ختاماً، بدلاً من التذمّر وندب الحظ وتزجية الأوقات بلا قيمة تذكر في ثرثرة المقاهي والهواتف ومجموعات «الواتس آب» وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، أو في جلسات «الحش» في خلق الله أو اجترار الأحزان اللانهائية وتكرار الشكاوي من الأمراض والمشاكل.. إلخ، ليكن لنا كما يقول سلامة موسي: «هواية نتعلق بها تشغل فراغنا وتمرّن ذكاءنا. ليكن لنا همٌّ واهتمامٌ بشؤوننا الخاصة وبشؤون هذا الكوكب. لتكن لنا رغبةٌ في التطور والتغيير. لتكن لنا دراسة واتصال لا ينقطع بالمعرفة والثقافة والكتاب. ليكن لنا دين إنساني في القلب، وبر حكيم في العمل، لكي ندرك منهما مغزى وجودنا. وليكن لنا نشاطٌ يجنبنا تلك البطالة التي تعطل الجسم والذهن»... وأضيف من عندي ليكن لشيخوختنا قيمة ومعنى!

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4951 - الأحد 27 مارس 2016م الموافق 18 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:10 ص

      ماذا عن الاربعين

      اهتم بشكلي وصحتي ولبسي ولكن بناتي يرون ان معيب اهتم بنفسي والمفروض اهتماماتي تصب في خدمة البيت وتربية اولادهم رغم اني اعيش عمري ولا اتصابى او استعيد مراهقتي حتى يتضايقون مني

    • زائر 6 | 5:08 ص

      بعض المتقاعدين الله يهديهم

      يصيرون عبأ ثقيل على اولادهم وزوجاتهم قعده في البيت واوامر ما تنتهي وهوشه على الكوب تغير مكانه والله حياته تقصر عمره وعمر الا وياه

    • زائر 4 | 3:09 ص

      كلام منطقي وسليم جدا. .وأنا كمتقاعد وعمري الآن خمسة وخمسون سنة أتمنى أن نحظى ببعض البرامج التي تحاكي هذا المجال.

    • زائر 5 زائر 4 | 3:22 ص

      الشباب شباب الروح

      لا الجسم كل ما كانت الروح شابة كل ما كان الجسم شاب فالرياضة تكون اولاً للروح يتبعها الجسم

    • زائر 3 | 2:31 ص

      شكرا . يا ريت تركزين مع الوسط على هذا الجانب. شكرا مجددا

    • زائر 2 | 1:14 ص

      تسلمي

      مقال في الصميم يحتاجه الكثيرون في مجتمعاتنا... تسلمي أستاذتنا العزيزة

    • زائر 1 | 12:17 ص

      نحتاج ورشة عمل لادراك كل ذلك..ولابأس ان تكوني انت يا سيدتي قائد هذة الورشة..وسأكون ان شاء الله من اوائل المسجلين..مع عظيم تقديري...

    • زائر 8 زائر 1 | 12:22 ص

      كلام جميل. ينبغي علينا أن لا نستسلم الى التقدم في العمر و النظرة السلبية للحياة. بل نبقى ننظر الى المستقبل نظرة تفاؤل و نشاط

اقرأ ايضاً