العدد 4984 - الجمعة 29 أبريل 2016م الموافق 22 رجب 1437هـ

«حليب أسود»... إليف شافاق

بتول حميد
بتول حميد

كيف لنا أن نستقرئ الحروب التي تنشأ داخل تشكيلنا الجواني بما ينجب من أفكار حادة أو عواطف مسالمة؟ هل خوضها دليل على عدم التناغم النفسي مع ذواتنا أو الآخرين؟ هل ينتصر الضجيج علينا فنعجز عن عزف موسيقانا الخاصة أو تفعيلها بأصابع أدمغتنا أو حتى الإنصات إليها؟ هل نؤجل وقفتنا الصادقة للاستمراء مع أفكارنا وبناتها؟ أو هل تركلنا متغيرات الحياة السريعة لإعصار يمنعنا من التقاط أنفسنا في هنيهات صمت وتأمل؟ ألا يمكن لكل هذه المتغيرات أن تكون اللفتة المضيئة إلى إمكانية العيش كمخلوقات رائعة تعرف قيمة ملكاتها التي تهتز لها الحياة.

جعبة خصبة من التساؤلات تصيغها إليف شافاق في توثيقها لتجربتها المتعلقة بالأمومة وهواجسها، في مذكرات شخصية «حليب أسود»، تتيح لنا استطعام وجبة حياتية في قالب درامي أنيق وبأسلوب رشيق لا يخفي بديهيات القلق والشكوك والتناقضات التي قد تواجه المرأة المبدعة على وجه الخصوص.

عن سبب تسمية الكتاب تقول شافاق: «اخترت لهذا الكتاب عنوان (حليب أسود) لسببين، أولهما، لأنه يتعامل مع اكتئاب ما بعد الولادة الذي تبيّن لي خلال التجربة التي عشتها معه بأن حليب الأم (أو الأمومة) ليس دائماً ناصع البياض كما يحب المجتمع تصويره. ثانيهما، للخروج من هذا الاكتئاب وبسببه كنت قادرةً على التقاط الإلهام، ومن هذا الحليب الأسود تمكّنت من تطوير نوع خاص بي من الحبر للكتابة».

شافاق الروائية الفضولية التي تطرح مداد الأسئلة بجسارة في الفكر والسياسة والدراسات النسوية والأدب، المرأة التي ألفت العزلة ولم يكن لها حبيب غير القلم، ولا أبناء غير الكتب، تستعرض تجربتها بعفوية خالية من الترف الذي يفقدها فيتاميناتها، وكأنما تعلن فلسفات جديدة «الحب نصيب والزواج قرار»، «الأمومة نصيب والتربيّة قرار»، «الحزن نصيب والفرح قرار».

تجسد أصواتها الداخلية على هيئة نساء بحجم الإصبع، وتسرد مونولوجها بتوصيف دقيق لملامحهن وتأثيرها عليها ببراعة شديدة، فمرةً ترى الجانب الدرويشي ومرةً العملي، ومرات أخرى المثقف الساخر. وبهذا الحس الفانتازي تقنع القارئ عبر إطار رصين، بضرورة تقبله لهذه الفضاءات الوهمية من السرد للوعي بالضجيج الذي قد يشغل رأسه في الحياة الواقعيّة.

ولا يخلو الحليب الأسود، من بحث حثيث الخطى لكاتبات واجهن تحديات الكتابة كسيلفيا بلاف، أو مواقف أزواج الكتاب كتولستوي وزوجته صوفيا، وزيلدا زوجة سكوت فيتزجيرالد، صاحب رواية «غاتسبي العظيم». قصص عميقة من هنا وهناك تستدعي الإنصات لأولويات هؤلاء النسوة وللمساحة التي أتيحت لهن للارتفاع بالمحبرة التي يؤمن بها. في كتابها تقول شافاق «هناك قاعدة عاشت إلى اليوم ولا تزال في الوسط الثقافي: الكتّاب الرجال يجيئون إلى الأذهان ككتّاب أولاً ثم كرجال. أما الكاتبات؛ فإنهن إناث أولاً ومن ثم كاتبات».

كل ما سبق شكّل توليفةً منفردةً لكتاب رائع بترجمة ممتازة لأحمد العلي، ولقاء لم يسبق له شبيه مع إليف شافاق.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً