ليس من الصعب أن تبحر في عذب الأشعار وهطول القوافي لكنه من الصعوبة أن تبحر في دم يقع على حافة بياض لك في الألم والأمل والفجر والطلوع والنخلة والثمر والأمس والحاضر والغد، هكذا يعترف الدكتور علي فرحان في مستهل قراءته لديوان "دم على حافة البياض" للشاعر البحريني حسين السماهيجي بعظم المهمة وفي أن يكون متصوفا واقعيا ومتحملا لمرارة الألم وحلاوة الأمل وعذوبة الإبحار وذلك خلال الأمسية التي أقامتها اللجنة الثقافية بأسرة الأدباء والكتاب "قراءات نقدية في ديوان دم على حافة البياض" للشاعر البحريني الدكتور حسين السماهيجي، بمشاركة علي فرحان و كريم رضي في الساعة الثامنة من مساء الأحد الماضي بملتقى المحروس الثقافي بشارع باب البحرين.
ويرى فرحان أن مفارقات كثافة نص يلونه الدم على حافة البياض ليست ببعيدة عن مفارقات الواقع وليست ببعيدة عن البياض الذي يغزوه الدم ليغرقه وينفذه، كما أنه ليست بغريبة عن وطن فيه الغموض والشتات والهوية والوطن، مشيرا إلى أن أول ما يلفت في هذا العمل الفني المتميز العنوان "أولى عتبات النص" وهو نص ينفتح على نصوص وتناصات لا تنتهي، فالعنوان بمفرداته الأربع في واحة الغلاف الأمامية تقابلها عشر كلمات في الواجهة الخلفية حيث تختصر ألم الشعر ومعاناة الوطن ويفجر عدة قراءات ومجموعة تأويلات تتشكل على خريطة غلاف الديوان، وفي قراءة مغايرة فإن البياض لا يسود الحياة إلا بالدم المنهمر على حوافّه، هذا الواقع في بلد سمته أحمر علي حافة البياض، إن الوطن الذي ينعاه الشاعر وتعزّيه القصيدة، لذا سيبقى (في مخلب الورقة يسيل دم من محجر الشاعة)، لتحضر قصة يوسف الصديق عليه السلام وأخوته في هذا الديوان منذ الوهلة الأولى، بل إن نظرة على حافة الغلاف يستحضر القارئ قميص يوسف الذي جاء به أخوته لأبيهم يعقوب النبي عليه السلام بدم كذب، ورغم كذب هذا الدم إلا أنه يشهد على أشهر خيانة للأخوة في التاريخ ليس الديوان ببعيد عن تجسيد هذه الخيانة في نزيفها وفي آلامها وعذاباتها وفي مروءة يوسفها.
كيف لم أنتبه للدّم المتخثر
تحت عيون الذين يفرّون مني
ولكنني لم أزل أتحسس أحزانهم وهي تشرب
هذا الحصار
أنت تشربني
وأنا أشرب الوقت
كلانا ينادي على الماء
يا ذا الرماد المقيم على الباب
كلانا ينادي على دمه
وفي فاتحة الديوان يبين الدكتور علي فرحان بأن الشاعر السماهيجي يبني البيوت ويسكن الغرف العلّية لكنّه يهدمها، ليعيد تشكيل الحياة من دم يقذفه على الورقاء فيرغب الجسد نجوما ليخلق من بين قصيدة وقصيدة فتى يبحث من خلف السديم عن ماء فتنته الظّليم، وتنطلق معاناة الشاعر من فراغ اليواقيت، إنه الفراغ القاتل إلى غياهب المعنى، وهكذا يبقى وحيدا، كوحدة النص وتفرده، ولكن نصه يتوّح على عرش القصيدة الذي يمنحه التفرد والجمال، ويشير الدكتور فرحان إلى أن القيروان رحلة الشاعر وداره والمكان الذي ارتبط به حينما كان يحضّر الدكتوراه، فالقيروان رابعة الثلاث (مكة والمدينة والقدس)، الإمتداد التاريخي والحاضر الجديد، هي بوابة الفتح للعالم الإسلامي قديما وحديثا، هذا التناص يولّد في القصيدة هذا البعد المتواري خلف الرمز والتورية.
أنام لها
غير أني أصحو على صوتها
في دمي بعض عطر
تسلل في جانح الشعر من أشقر ضجّ فيه الصدى
مدّ لي من أنوثته، فمددت
وحول لغة الشاعر يرصد الدكتور علي فرحان واقعية صوفية (مفردات كثيرة دالة على ذلك ومنها في قصيدة أوقفت أنفاسي عليك)، ميت بن نونين (فأنا الآن بين نونين ميت، ولقد حان في التجلي قيامي)، كم حضور الخمرة في كثير من النصوص، ومنها كذلك وصل الماء، سما تدور، عابد الصنم، ويختم بأن الشاعر الدكتور حسين السماهيجي في هذا الديوان ملتزم، يرى قيمة الكلمة فيما تحملها من رسالة نحو قومه أمتهـ وقد تمثل السماهيجي هذه الرؤية في الديوان كله بتبنيه لهمّ وطنه ومعاناة قومه، بل أنّه هجا من أحال الكلمة بوقا للظلم، وصيّرها أداة للتشفي أو أفرغ الكلمة من مضزنها ومن شرفها.
شاعر صاحب مشروع
وانطلق الشاعر كريم رضي في ورقته النقدية حول ديوان "دم على حافة البياض" من الكتابة بوصفها مقاومة حيث يرى بأن الكتابة لا يمكن لها أن تكون مقاومة إلا عبر كونها ما بعد حداثية، فالحداثة جاءت بالتنميط العقلي والإيديولوجي والثقة في المستقبل، ويواصل رضي في ورقته قائلا: كانت الحداثة في بدايتها ثورية بما يكفي لتحطم معمارا كاملا من اللا عقلانية والخرافة. غير أن كل نورة تحتاج إلى ثورة، وهنا وجد العالم نفسه بعد حربين عالميتين يطرح على نفسه سؤالا رهيبا، إلى أين يقودنا الحداثة؟ إلى أين يقودنا العقل المحض.
ويفصل رضي في معركة الكتابة ما يصفها قائلا: إن معركة القصيدة هي بشأن السيطرة على المادة لكي لا تفلت، ولكنها سيطرة ذكية حاذقة، إنها أشبه بسيطرة الصياد الذي يرخي عنان خيطه للصيد فتذهب هدية البحر بعيدا بعيدا حتى لتظن أنه قد نسيها فإذا به ينترها نترة تعلم أنه من سماهيج حيث راس رية وحيث حين تصحو السمكة وهنا أعني اللغة يكون الشاعر قد استعاد الزمام الذي تركه قاصدا لتتوهم اللغة أنها قدر لها أن تكتب ما تشاء لا ما يشاء، وإننا نجد عند السماهيجي بشكل عام سواء على صعيد نصوص دواوينه الستة أو على صعيد عناوينها (ما لم يقله أبو طاهر القرمطي)، (يترك لهم أثرا)، (دم على حافة البياض) مثالا، وتلك هي المفردات الأثيرة (البياض، الصوت، المحو، الإثبات، القصيدة، هندسة القواعد، الرقيم، الشذرات، الحروف، القصيد، سميتك، أسميتك، العروض، اللغات، الكتاب، أهجو، التآويل، الكلام، النص، الحبر، أوحيت، أغني، الألواح والورق) وحيث اللغة هنا تعبر عن الأسلوب وعن محاولة مساءلته ونقضه في آن لأنها لغة تتحدث عن اللغة أو في صميمها.
ويلخص الشاعر كريم رضي قراءته بالقول: إن حسين السماهيجي شاعر صاحب مشروفع ولا يكتب كل ديوان بروح منفصلة عما سبقه من الدواوين، إن هذا المشروع برأينا يقوم في أهم عناصره على بناء النص الشعري على شكل قلعة محصنة مشغولة في المقام الأول ببناء ذاتها عبر صناعة لغوية وإيقاعية متأنية وذات نفس طويل جدا، يمثل الكلام عن الكلام أو الشعر عن الشعر أو الكتابة عن الكتابة ملمحا بارزا في قصيدة السماهيجي ما يجعلها ذات محمولات نقدية أيضا، إن صح التعبير، يمكن الركون إليها ليس فقط في فهم تجربة الشاعر نفسه بل ربما في فهم الشعر أيضا بشكل عام في التجارب ما بعد الحداثة، ويتابع رضي قائلا: يمثل المكان وخاصة التاريخي عنصر رئيسا في نص السماهيجي وهو دائما وأبدا مكان يتوسل الجغرافيا ولا يركن إليها في سبيل تحويل هذه الجغرافيا إلى نص وبالتالي إلى تاريخ، وأخيرا، تتمثل المقاومة في نص السماهيجي مرة بوصف الكتابة هي ذاتها مقاومة عبر منهج ما بعد الحداثة والذي فتح النص الحداث المغلق على ماضيه وعلى لغته فجعله سؤالا يتعامل مع محيطه وتاريخه بروح بعيدة عن الاستعلاء والموعظة ومفعمة بالإصغاء العميق.
