العدد 5010 - الأربعاء 25 مايو 2016م الموافق 18 شعبان 1437هـ

في نظرة العربيِّ للعربيِّ الآخر

جمال عبدالناصر- الملك فيصل بن عبدالعزيز - غازي القصيبي
جمال عبدالناصر- الملك فيصل بن عبدالعزيز - غازي القصيبي

أود الإشارة أولاً إلى أن هذا المقال ليس نتيجة دراسة علمية استقصائية أو إحصائية، بل هو عبارة عن انطباعات قد تصح وقد تخطئ تراكمت في مسيرة الحياة التي قيضت لي أن أسافر إلى معظم البلاد العربية والاحتكاك والتعامل مع مواطنين ومقيمين في مختلف الحقب والأوضاع ومن مختلف الفئات الاجتماعية رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، وفي حقول عمل مختلفة سياسية ومجتمعية وحقوقية، أو أثناء السياحة الخالصة.

إنه وأثناء فترة المد القومي في النضال ضد الاستعمار والتحرر منه وبداية بناء الدولة الوطنية الممتدة من الأربعينات حتى هزيمة يونيو/ حزيران 1967، كانت نظرة العربي وتعامله مع العربي الآخر إيجابية وأخوية. عموماً وكلنا يعرف أن الآلاف من العرب الذين اضطهدوا في بلدانهم بفعل الاستعمار أو الحروب أو نكبة فلسطين، وجدوا في البلدان العربية التي لجأوا إليها حضناً دافئاً ووجدوا من إخوانهم العرب كل الترحاب والمساعدة، بل سرعان ما اندمجوا في هذه المجتمعات لمن بقي منهم فيها وتزاوجوا وتملكوا وعملوا في مختلف المجالات، بما في ذلك العمل السياسي وتسنم مراكز قيادية في الدولة. ونسوق مثلاً على ذلك اللبنانيين في مصر والجزائريين في المغرب والفلسطينيين في الأردن.

كما أنه وبفعل التعاون الحضاري فقد تدفق الآلاف من العرب ومنهم الخليجيون أيام فقرهم إلى حواضر التعليم في بغداد ودمشق والقاهرة، وحيث كانت تقدم لهم كل التسهيلات بل ويحظون بالأولوية في مقاعد الكليات المهمة مثل الطب والهندسة وتصرف لهم منح ويوفر لهم السكن على رغم ظروف بعض البلدان الصعبة مثل سورية ومصر.

ومن أجمل توثيق لتلك الفترة رواية المرحوم غازي القصيبي «شقة الحرية»، والتي تحولت إلى مسلسل رمضاني جميل، هذه الصورة الإيجابية انعكست في مختلف الفنون كالسينما والمسرح والأدب على رغم محدوديته، فقد كانت هناك شخصيات لبنانية في الأفلام المصرية مثلاً.

لكن كل ذلك تبدل وبسرعة إلى نظرة سلبية بل عدائية للعربي تجاه العربي الآخر وصور نمطية مقيتة، تعكس طبيعة العلاقات الجديدة ليس في ما بين الحكومات فقط بل الشعوب أيضاً، بل وفي أوساط الشعب الواحد.

أدت هزيمة يونيو 1967، التي هي محصلة لفشل متراكم للأنظمة الوطنية التي تصدت حينها لمقارعة «إسرائيل» والتصدي للمهمات القومية، وأعني بالتحديد في مصر وسورية والعراق، والشقاق في الصف العربي ممثلاً بجامعة الدول العربية ما بين ما يدعى بالدول التقدمية من ناحية والدول المحافظة، وطبعاً المؤامرة الصهيونية الغربية إلى حرب يونيو 1967 وهزيمة مدوية للعرب على كل الصعد.

وعلى رغم الاستفاقة القصيرة الأجل لتوحيد الصف وتصفية آثار العدوان بقيادة كل من المرحومين الرئيس جمال عبدالناصر والملك فيصل آل سعود، وعلى رغم إنجاز حرب أكتوبر/ تشرين، إلا أن الخلل كان عميقاً بحيث تواصل انحدار العرب باستمرار وأحد تجلياته صعود العصبيات المحلية، وصعود النظرة الاستعلائية للحائزين على عوائد النفط المتدفقة تجاه إخوانهم العرب الذين انزلقوا نحو مزيد من الأفكار لعوامل عديدة، وبالمقابل نظرة احتكار في أوساط العرب من الحواظر التقليدية المتقدمة تاريخياً مثل بلاد الشام ومصر والمغرب العربي تجاه الخليجيين.

عوامل تشكيل الوعي

وباستثناء الفترة القصيرة الممتدة ما بين هزيمة يونيو 1967 ونصر أكتوبر 1973 المحدود، حيث ساد نوع من التضامن العربي وبالتالي شعور الجميع بضرورة التكاتف والتلاحم، فإن ما تبع حرب أكتوبر من تطورات وأخطرها كامب ديفيد وإخراج المقاومة الفلسطينية من دول الطوق، أدى إلى مرحلة لا عقلانية من صراعات الدول العربية واندراجها في محاور متقابلة ومن تجلياتها الاتحادات الإقليمية كالخليج العربي والمغاربي. وقد أسهم ذلك ليس في إعاقة الاندماج العربي ومشاريع مثل السوق العربية المشتركة وسكك الحديد والربط الكهربائي بل وضعت الحواجز أمام تنقل المواطن العربي وإقامته (باستثناء المواطن داخل مجلس التعاون الخليجي لحد ما). وفي ظل شحن الحكومات وتعبئتها لمواطنيها ضد مواطني الخصم العربي الآخر، إثر صدامات عسكرية وهي كثيرة، أو خلافات سياسية وما أكثرها، وفي ظل تعبئة إعلامية سلبية، انتشرت وتعمقت ثقافة انطباعية سلبية للعربي تجاه العربي الآخر.

وأمام ضائقة العيش والبطالة والتقشف في عدد من البلدان العربية كثيفة السكان مثل مصر والمغرب وسورية أو محدودة الموارد مثل موريتانيا والسودان والأردن، فإن نظرة المواطن فيها للاجئين العرب أو من تضطرهم ظروف مختلف للإقامة فيها، أضحت سلبية ولم يعد يتقبل تقديم دعم ومساندة لبعض الفئات مثل المنح الدراسية أو الترخيص بالعمل أو الدعم الإغاثي.

وقد تواكب ذلك مع خصخصة العديد من الخدمات العامة مثل التعليم والصحة، حيث فرضت رسوم مرتفعة للدارسين أو المتعالجين العرب خلافاً للمواطنين، وهذا واضح في مصر والأردن، ولم تعد الجامعات العربية الكبرى حاضنة للطلبة العرب والمواطنين يمارسون فيها حرياتهم من دون تمييز وخصوصاً الانتماء للتنظيمات السياسية القومية، أو النشاطات الثقافية والاجتماعية. ولم تعد المنظمات الثقافية والإبداعية والإعلامية تحتضن العرب والمواطنين دون تمييز.

ومن أهم التحولات هو أن الإنتاج الفني وخصوصاً الأفلام والمسلسلات الرمضانية والبرامج أضحت تستبعد الشخصيات العربية وتقتصر على الشخصيات المحلية في عزل واضح خلافاً لما كان سائداً قبل السبعينات.

هذه العوامل وغيرها أسهمت في تشكيل وعي جمعي لدى غالبية مواطني كل دولة أو إقليم عربي. وتمثل صورة نمطية سلبية للآخر، وحتى لا أدخل في المحظورات فسأكتفي بالترميز، فمثلاً ينظر عرب المشرق خصوصاً وباقي العرب عموماً لمواطني الخليج بأنهم محدثو النعمة و «بطرانون» وغير متحضرين وأغنياء وسذج بحيث ينظر للخليجي كخزينة للمال يتوجب الغرف منها بالطرق كافة، وهذا ما يعانيه العديد من الخليجيين سواء أكانوا سواحاً أو مقيمين في هذه البلدان.

في اتساع الفجوة

بل إن ذلك يمتد إلى تعامل بعض العرب مع المواطن الخليجي وهو في بلده. ومما أسهم في ذلك تمكين الحكومات الخليجية لشخصيات عربية ولأسباب شتى من التحكم بمواطنيها، بالمقابل فإن نظرة كثير من الخليجيين إلى المواطنين العرب الآخرين بأنهم انتهازيون ومرتشون ومبتزون. أما النظرة إلى نسائهم فحدث ولا حرج، بحيث ينظر لبعض البلدان باعتبارها هدفاً للمتعة الجنسية. ومن تعبيرات هذه العلاقة الفاضحة، زواج القاصرات العربيات بأزواج خليجيين من كبار السن من خلال ترتيبات مصلحية بحتة وسماسرة منتفعين على حساب كرامة البشر وقدسية العلاقة الزوجية.

وكثيرة هي حالات النصب التي يذهب ضحيتها مواطنون عرب وخليجيون بسبب هذه التصورات الخاطئة، وتمكنها من المسئولين عن إنفاذ القانون. فالخليجي ينصب عليه من قبل بعض العرب، وبعض العرب المستخدمين يجري استغلالهم في بلدان الخليج. وأضحى إسباغ صفة النصب والاحتيال و «الشطارة» والسمسرة والسذاجة والغباء على شعوب عربية من قبل الكثيرين من شعوب عربية أخرى سائداً.

وهناك فجوه واسعة تفصل النخب العربية السياسية والمجتمعية والأكاديمية والثقافية والفنية بعد أن تقلص مجال النضال المشترك والتفاعل المشترك والانتماء المشترك، فيشكو الخليجيون من الاستهانة بقدراتهم السياسية والأكاديمية والثقافية في المؤتمرات والندوات من قبل إخوانهم العرب.

وينعكس ذلك أيضاً في الفعاليات مثل المهرجانات الثقافية والفنية ومعارض الكتب ومنح الجوائز التقديرية.

حيث تسود التحيزات الوطنية والإقليمية وهناك مشكلة كبيرة أيضاً في التواصل والتفاعل ما بين المشرق العربي من ناحية والمغرب العربي من ناحية أخرى، وينعكس سلباً في تشكيل صورة نمطية سلبية تجاه الآخر. إنه وبفعل التأثير الواسع والعميق للثقافة الفرنسية، فإن العديد من كتاب ومثقفي وفناني المغرب العربي لهم نتاجات بالفرنسية يتفاخرون بها، كعلامة للتفوق والعالمية ويقيم العديد منهم في فرنسا.

أما في المشرق وباستثناء لبنان فإن نتاجاتهم الأدبية والفنية والثقافية عربية بغالبيتها والقليل منهم ذو نتاج بالإنجليزية، وقد ولَّد ذلك شعوراً بالتفوق لدى المغاربة، ونظرة دونية لإخوانهم المشارقة، حيث تتفجر هذه العلاقات والنظرة غير السوية في المهرجانات والندوات والمؤتمرات. وحتى في الإقليم الواحد مثل الخليج العربي أو الشام الكبرى، أو وادي النيل أو المغرب العربي فهناك تحيزات محلية تجاه الآخرين المنتمين إلى جنسية أخرى أو مواطنين آخرين. وهناك تحيزات سلبية ما بين المغاربة والجزائريين وما بين الليبيين ومحيطهم، وما بين المصريين والسودانيين وما بين العراقيين والآخرين، وما بين السوريين واللبنانيين، وما بين اليمنيين والخليجيين، وما بين الأردنيين والفلسطينيين.

التحيُّزات... الصورة النمطية

هناك أحداث ذات دلالات على هذه التحيزات والصورة النمطية السلبية. لعلكم تذكرون حادثة مباراة كرة القدم ما بين الجزائر ومصر ضمن دوري أبطال إفريقيا والتي تسببت في أعمال عنف واسعة من قبل مصريين ضد أهداف جزائرية في مصر، وبالمقابل اعتداءات من قبل جزائريين ضد أهداف مصرية في الجزائر، وأدت إلى توتر العلاقات وسحب السفراء. وهذا لم يكن ليحدث لو أن المباراة مع بلد غير عربي.

واليوم العرب في أسوأ حالاتهم، حيث أضحى للمنظمات الإسلاموية المتطرفة دولتهم «داعش»، وشمول العمليات الإرهابية للعديد من البلدان العربية، فإن من أخطر نتاجات ظاهرة الإرهاب، هو تطوع مواطنين عرب في صفوف المنظمات الإرهابية لقتل مواطنين عرب آخرين، وهو ما يؤجج الضغينة والنظرة السلبية لتلصق بمواطني الدولة التي يأتي منها الإرهابيون.

أما الظاهرة السلبية الأخرى فهو ما يدعى بجهاد النكاح، حيث تدفق نساء وفتيات من بلدان عربية مثل تونس إلى ساحات الحرب للزواج الشكلي من الإرهابيين، كما وترافقت هذه الحرب المجنونة في سبي نساء ينتمين إلى أقليات دينية وقومية مثل الأيزيديات والمسيحيات والتركمانيات، وحتى المسلمات من قبل المنظمات الإرهابية؛ ما يترتب عليه تعميق النظرة السلبية فيما بين مكونات المجتمع العربي.

الموضوع شائك ومعقد وخطير، ويحتاج فعلاً إلى الإقرار أولاً بهذا الواقع الأليم، ومناقشته من قبل النخب الحريصة على التعايش، وليس الوحدة التي أضحت هدفاً بعيداً لشعوب هذه الأمة، وخلق آليات للتفاعل بعيداً عن الحكومات والمؤسسات الرسمية الوطنية والإقليمية والعربية.

غلاف الرواية
غلاف الرواية




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:12 ص

      راح عز العرب جمال عبدالناصر و لم يبق الا....

    • زائر 1 | 4:16 ص

      طرح صريح يعترف بوجود المشكلة من غير النفاق الذي جعلنا عمي تجاه كل مشاكلنا و بالتالي عاجزون عن حلها لأننا ننكر و جودها بالأصل

اقرأ ايضاً