العدد 5014 - الأحد 29 مايو 2016م الموافق 22 شعبان 1437هـ

حركة «الصعاليك» الجديدة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

طيلة الأيام الماضية كنتُ أبحث عن إحدى الحركات التي نشأت في أوروبا بعد منتصف القرن التاسع عشر. الحركة تلك كانت تتعلق بنشاط سُمِّي أتباعه حينها بـ «الفوضويين» أو «الأنكارتيين واللاسلطويين». وهي مُسمّيات تشير جميعها إلى حركة كانت تهدف إلى تقويض استقرار النظم السياسية في أوروبا لصالح إقامة أنظمة غير هرمية، هدفها إشاعة العدالة، وكأنها «حركة صعاليك» جديدة كتلك التي انتشرت في المجتمعات العربية ما قبل الإسلام، وكان من أبطالها السُّلَيْك بن السَلَكَة وعروة بن الورد وتأبط شراً وغيرهم.

لم تكن تلك الحركة وذلك التيار «شبه الأممي» يمتلك قدرات محدودة أو متواضعة، بل قوة وزخم لا نظير له في تلك الفترة، التي لم يكن فيها العالم بَعْد قد دخل في حرب عالمية. لنا أن نتخيَّل أن هذه الحركة استطاعت أن تغتال رئيساً أميركياً وفرنسياً وملكاً إيطالياً وإمبراطورة للنمسا والمجر ووزير خارجية إسبانياً. جرت تلك العمليات «النوعية» في أقل من عشر سنوات. أي أنهم أوجعوا أهم قارتين في العالم وأهم الدول فيهما. لقد كانت الحركة منظمة جداً ولديها مُنظِّرون.

فقد اجتذبت إليها أنصاراً من طبقة الانتلجنتسيا المفكِّرة ومن البرجوازية الوطنية. بيتر كروبوتكين (1842م - 1921م) كان أحدهم بل وأبرزهم. وقد ساعدته «جغرافيته» المتفرّدة على فهم خارطة الأهداف كلها التي وضعها الأنكارتية. فهو كان عليماً بشئون روسيا وأوروبا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. كان هدفه أن يرى القارتين وقد أصبحتا صيغة للتعاون المتبادل وليس على طريقة الدول الرأسمالية «المتوحشة» كما رآها هو.

كان كروبوتكين يؤمن بنظرية «الدعاية بالأفعال» كون العمل الهجومي تغنيك دعايته وأثره عن «آلاف الكتيبات الدعائية». لذلك عُقِدَ في سنة 1881م مؤتمر دولي للأنكارتيين دشَّن لتلك النظرية. وقد كتبت قبل أسابيع، أستاذة التاريخ بجامعة هارفارد البروفيسور مايا جاسنوف مقالاً في الـ «نيويورك تايمز» تحدثت فيه عن تلك الأوضاع وهو ما نستند إليه هنا. كانت تشير فيه إلى أن هذه الرؤية «العنفية» التي تبنتها الحركة لاقت رواجاً وجاذبية بين الأوروبيين والروس كونها تتحدث عن «مجتمع حر وبدون دولة» مُقيِّدة.

لم يكن الاغتيال المنظَّم لتلك الحركة هو الوسيلة الوحيدة القائمة على الدعاية بالأفعال، بل كان بضرب التجمعات العامة كذلك بمادة الديناميت. وتشير جاسنوف إلى أن مقهىً في باريس وميداناً في إيطاليا ومبنى الأوبرا في برشلونة وموقع غرينيتش في لندن كانت أهدافاً لهذه الحركة ذهب ضحيتها الكثيرون. وزاد الأمر سوءاً قيام أيرلنديين قوميين متطرفين في ثمانينات القرن التاسع عشر بتفجير مترو الأنفاق في لندن وبرجها وكذلك مجلس العموم الذي يحظى بقدسية عند الإنجليز.

هذه صفحة من صفحات الإرهاب الذي حصل في تلك الفترة. لكن هناك أمراً مهماً لا يمكن إغفاله وهو موقف الدول الأوروبية من تلك الحركة وكيف قامت باستثمارها لصالح أمرين اثنين: ضرب الهجرة وتقييد الحريات المدنية في الغرب، تحت شعار حماية الأمن القومي، وهو ما ذهبت إليه مايا جاسنوف في مقالها. لقد شرَّعت البرلمانات الأوروبية والكونغرس الأميركي قوانين أطلقت يد الأمن والشرطة، وعمليات نفي من البلاد ومنع دخول، تحت شعار مكافحة «الفوضوية».

لقد منح ذلك الجو ويليام هنري ويلكينز لأن يُعلِي صوتاً شوفينياً بشكل مقرف وهو يعادي المهاجرين من دون رادع في بلدان كانت تعتبر نفسها الملاذ الآمن للمضطهدين. كان ويلكينز يقول عن المهاجرين «غزو أغراب» سيُحوّلون أجزاءً من لندن إلى «مدينة أجنبية» على أيدي أناس «معوزين ومنحطين» يجلبون «الإملاق والشر والجريمة». ثم باتت شعارات «عودوا إلى بلدكم» تصدح في جنائز الضحايا، وأصبح الجو أشبه بغطاء شوفيني ظلَّلَ الدول الأوروبية ضد المشردين والمهاجرين.

في جانب آخر من الموضوع وهو المتعلق بالحريات العامة، أشارت مايا إلى خطاب للكاتبة البريطانية الشهيرة لويزا بيفنجتن نشرته قبل 121 عاماً من الآن حذرت فيه البريطانيين من أن هذه الإجراءات التي يتم تشريعها ليس هدفها مكافحة الفوضى، بل هي «نذير بالاعتداء على حرياتنا نحن أنفسنا» وكانت هواجسها حول الحريات المدنية في محلها فعلاً.

وهي تُشبِّه (أي مايا) هذا التحذير بتحذيرات ادوارد سنودن في عصرنا اليوم والذي فضح الولايات المتحدة الأميركية ودولاً أخرى عندما نشر ما يُشير إلى ذلك، وقيام هذه الدول وحلفائها من الاعتداء على الحريات تحت ذريعة الأمن. يا له من تشابه عجيب يجري اليوم بعد أكثر من قرن وعقدين.

لقد شكَّل مؤتمر روما لمكافحة الفوضى سنة 1898م وبروتوكول سان بطرسبرغ سنة 1904م وتعزيز العمل الاستخباراتي والشرطي بين الدول منعطفات رئيسة لمواجهة ما كانوا يقولون إنه الفوضى السياسية والأمنية التي خلقتها الأنكارتية. وما زاد القيود صرامة هو اغتيال الرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة الأميركية ويليام مكينلي (1843م - 1901م) حيث التقت القبضتان الأميركية والأوروبية عبر الأطلسي. وكان لتلك الجهود قيود على الحريات كما أشرنا.

الإرهاب والفوضى لا «شرعة» لهما ولا «شرعية» بأيّ حال من الأحوال، لكن يجب فصل المسارين: مسار محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه وبين الحفاظ على الحريات العامة، وجعل الناس في مأمن من التهم الجوّالة، التي دفع ثمنها المهاجرون في العالم وكذلك الناس العاديون بفعل التشريعات والقوانين التي لم تعد تعالج أمراً واحداً، بل انزلقت إلى أشياء أبعد وأكبر لا صلة بها بما يجري.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5014 - الأحد 29 مايو 2016م الموافق 22 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:15 ص

      الدول استفادة ايضا من المهاجرين اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا واوروبا بفضل المهاجرين المسلمين اصبحت كالاوان الطيف الجميل متنااغمه

اقرأ ايضاً