العدد 5070 - الأحد 24 يوليو 2016م الموافق 19 شوال 1437هـ

قصة قصيرة... الصفعة

قصة قصيرة - مصطفي محمد معوض سالم (مصر) 

تحديث: 12 مايو 2017

يميل المؤشر إلى أقصى اليسار، ينحرف آدم متتبعاً إرشادات الـGPS للوصول إلى أقرب محطة للوقود، ينتظر خروج السيارة التي أمامه. يتقدم بضعة عجلات، يخفض صوت المذياع قليلاً خشية أن تتفلت منه أية جزئية من فقرته الإذاعية المفضلة.

- هنا مونت كارلو الدولية وهذه فقرتنا الصباحية "كافيه شو"..الخامس من آذار

 يُنزل آدم زجاجه الكهربائي إلى مستوى شفتيه، ويلقي بكلمة واحدة في الهواء تلتقطها أذن عامل المحطة. يقترب العامل من أحد جانبي السيارة، ينزع غطاء صغيراً فيكشف عن فوهة "التانك"، يلتقط خرطوم البنزين فيتبعه عداد الماكينة الجاثمة خلفه في سباق رقمي محسوب.

يسرع عامل أخر؛ بنصف ابتسامة تداعب صدغه الأيمن؛ إلي التقاط قطعة قماش مهترئة من حقيبة صغيرة شدت على خصره..يلقي بالقطعة على الزجاج الأمامي للسيارة ليزيل الأتربة ويتيح للسائل المنظف فرصة العمل بسلاسة على السطح.

  -... ومعنا على الهاتف القاص المصري المعروف..ليحدثنا عن آخر أعماله: "الصفعة"

في تلك اللحظة تماماً تقطب جبينه فانزلقت نظارته السوداء من أعلى جبهته. أوقفتها عظمة أنفه الناتئة فغطت العينين تماماً. قبض على المقود يعتصره بأصابع خشنة. هل كانت "الصفعة" هي الباعث، أم صخب الدقائق التي شوهها خرطوم البنزين وماكينة العد الرقمي وأصوات أخرى متداخلة من هنا وهناك.

ربما كان صرير قطعة القماش -الأشبه بصراخ الكسير المكتوم- وهي تنازع الغبار المتطفل على السطح الزجاجي، وتصارع الذر إلى أن تخور قواه فيتساقط كأوراق الخريف وتزداد القطعة اهتراء، ينحيها العامل جانباً، يخرجها من حلبة الصراع ليحل محلها رذاذ المنظف السائل - نفوسنا تحتاج إلى مثل هذا المنظف - يتساقط الرذاذ مثل قطرات كانون الأول على بلورات الزجاج المطعمة بالجلاتين المانع للكسر، وإن لم تسلم البلورات من بعض التشققات غير المتناسقة لتواري خلفها آثاراً من حادث ليس ببعيد.

-... برأيك كاتبنا ما هو البعد الإنساني خلف القصة التي سميت المجموعة القصصية باسمها: "الصفعة"؟

تزداد القبضة إحكاماً ويتتابع الرذاذ المقطر ليغطي السطح تماماً قبل أن تبدأ الممسحة الصغيرة عملها مع بقع السائل التي اختلطت بآثار الشوائب المهزومة والأتربة المقهورة.

-..تتناول القصة علاقة صداقة بين زميلين، اختلفا حول بعض الأمور الشخصية وبدلاً من المحاورة استخدم أشدهما خشونة ذراعه كحل نهائي.

أصبحت القبضة والمقود كقطعة واحدة صهرتها نار تتدفق من أعمق مكان في القلب. نار لم تنطفئ طيلة أعوام ثلاثة، ولو أتيحت لها فرصة التفلت في أية لحظة من بين جنبات هذا الجسد المتأجج خلف النظارة السوداء والسطح الزجاجي المشبر لحرقت كل ساكن ومتحرك بدءاً من محطة الوقود وحتى بوابات المرور إلى الإسكندرية.

- ... استخدم ذراعه ليصفع للمرة الأولى، ولم يقوَ على تحمل النظرة الدامعة أمامه، فهرول إلي السيارة وانطلق بأقصي سرعة فصدم الـ ..

- لأأأأأأأأ..– لم يتمالك آدم نفسه بصرخة فزعت لها كل السيارات وسقطت معها الممسحة وخرطوم الوقود .. يتوقف العداد ويتلاشي صوت المذياع وتسكن كل الأصوات إلا صدى ما زال يتردد وكأنه لا ينوي الرحيل: لأأأأأأأأأأ

-..هل أنت بخير؟ سيارتك مخبوطة. هل تريد فحص السيارة؟ عندنا هنا منطقة للفحص السريع.

ينتبه آدم وكأنه استفاق فجأة من كابوس يطارده لسنوات. يغلق فمه بإحكام كغطاء التانك. ينظر إلى العامل من خلف نظارته. يدفع الباب للخارج وينزل وسط  نظرات الدهشة والاستفهام والتعجب . الكل يوجه النظر إليه وهو يتحسس جانب السيارة الأمامي، يتأكد من وجود أثر الصدمة على المعدن الذي أطفئ لونه عمداً.

يعود أدراجه. يدير مفتاح التشغيل لينطلق مستكملاً رحلة هروب لا تتوقف.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 3:58 ص

      لحظات محطة الوقود كانت لحظات من "الدهشة والاستفهام والتعجب" كان يتذكر فيها الراوي ألما "يتردد صداه ولا ينوي الرحيل: لأأأأأأأأ" لم يكن يدري أي صدمة تأتيه، أو يخبط سيارته، فالموقف كان أصعب من أن يفسر "علاقة صداقة بين زميلين، اختلفا حول بعض الأمور الشخصية وبدلاً من المحاورة استخدم أشدهما خشونة ذراعه كحل نهائي" ليستمر الخلاف لسنوات معه تغيب معاني الإنسانية وينزف الجميع وينزف الوطن ... القصة رائعة ومثيرة والكاتب ناجح في توظيف الاستطرادات والربط بين الأحداث والمواقف بشكل حول اللحظات البسيطة إلى مثيرة

    • زائر 3 | 3:51 ص

      قصة عميقة وكاتب موهوب متمكن من حبك الأحداث، هي ليست قصة صفعة فقط لكنها أيضا قصة الهروب الذي يستمر لثلاث سنوات بين زميلين يمثلان معاني القرب الموجود بين أي أخوين ومواطنين اختلطت نفوسهما "بآثار الشوائب المهزومة والأتربة المقهورة" ومع ذلك القهر زاد الكبت ولم تعد النفس قادرة على التعبير سوى بصمت يغلق "فمه(ما) بإحكام كغطاء التانك" الذي يملؤه بالوقود في رحلة هروب متواصلة من الواقع الأليم، أو "الأشبه بصراخ الكسير المكتوم" الذي لا يجد من يعتقه من " آثار حادث ليس ببعيد"

    • زائر 1 | 10:37 م

      الكاسر
      ما فهمت شي من القصة الا فهم يفهمني شباب
      بس شكلها حلوة

اقرأ ايضاً